حقّقت حركة “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينيّة المسلحة في قطاع غزة انتصارات عسكرية على الكيان الصهيوني، عجزت عن تحقيقها الدول العربية مجتمعة منذ اغتصابه فلسطينَ، وإعلان دولته قبل 75 عامًا. هذا الانتصار العسكري بحاجة إلى تحرّك سياسي يستثمره في وضع حدٍّ لحرب الإبادة الجماعية الصهيو – أميركية في قطاع غزة، ويتغلّب على مخططات التهجير والضم.
فهل تطوّر حركة حماس أطروحاتها السياسية لتخرج القضية الفلسطينية من مأزقها، وتقلب الطاولة على رؤوس المتربصين بالقضية والمتجاهلين عذابات الشعب الفلسطيني، خصوصًا أنها الوحيدة القادرة على تفجير القنبلة السياسية النووية القادرة على تحقيق ذلك؟
إذا تبنّت حركة حماس حل الدولة الواحدة الديمقراطية للشعبَين: الفلسطيني واليهودي، فإن ذلك سيكون بمثابة قنبلة سياسية نووية تقلب الموازين والمعادلات، وتوفر مخرجًا لجميع الأطراف
تحدّي حماس السياسي
تحدثت في المقال السابق عن المآزق والتحديات التي أوجدتها عملية “طوفان الأقصى” وسببتها حرب الإبادة التي يشنّها التحالف الصهيو- أميركي على قطاع غزة منذ أكثر من مئة يوم، ومن بينها التحدي متعدد الجوانب الذي تواجهه حركة حماس، وسأقصر حديثي في هذا المقال على الجانب السياسي منه، حيث أصبحت حماس في المرحلة الراهنة بحاجة ماسّة إلى معالجة نقاط الضعف الكامنة في أطروحاتها السياسية الحالية، وفي مقدمتها غياب المشروع السياسي القادر على التأقلم مع السياق الإقليمي والدولي الراهن، وتعقيدات القضية الفلسطينية المتلاحقة وواقعها المرير؛ فلسطينيًا وإسرائيليًا، والمأساة الدامية المتفاقمة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني منذ حوالي 100 سنة.
فقد اقتصر ميثاق الحركة التأسيسي على رؤية سياسية عامة انسجامًا مع طبيعة المرحلة آنذاك؛ تشدد على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، ثم تطوّرت هذه الرؤية بفعل تحديات الواقع، فعدلت حماس ميثاقها عام 2017م تعديلًا بدا حائرًا، حيث أعلنت موافقتها على دولة مستقلة كاملة السيادة على حدود 1967م وعاصمتها القدس، مع حقّ العودة للشعب الفلسطيني، ولكن دون الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، ومع التأكيد على حقّ الشعب الفلسطيني في كامل أرض فلسطين التاريخية.
فخرج الطرح السياسي ليناقض بعضه بعضًا، وغير قابل للتنفيذ، ويستحيل قبوله إسرائيليًا ودوليًا، كما يتعارض مع موقع حماس في خارطة القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية الراهنة.
وحتى هذه اللحظة، ورغم التطورات الكبرى على الأرض، تتبنى حماس طرح 2017م، ويردده قادتها على المنابر، مشددين على رفض حلّ الدولتين والاعتراف بالكيان الصهيوني، وعلى أن هناك إجماعًا فلسطينيًا أو شبه إجماع على ذلك. وهذا يعني غياب أي حل سياسي سوى الاستمرار في المقاومة المسلحة، الأمر الذي يستخدمه الكيان الصهيوني لتبرير التشدد في موقفه، وتعزيز موقفه الداخلي والخارجي، وإقناع العالم بأن حماس ترفض السلام، وتصرّ على القضاء على الشعب اليهودي في فلسطين.
هذا الخطاب التعبوي الذي يلهب مشاعر الجماهير؛ شوقًا إلى نصر مثالي يقضي على الكيان الصهيوني، وفي ظل انسداد الطرق المؤدية إلى حل ضمن السياق العربي والإسلامي والدولي الراهن، كل هذا يوفر العوائق التي تجعل حماس أقل قدرة على تلبية هذا الاستحقاق، كما يحيد ديناميكيات العمل السياسي البراغماتي؛ لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، كما يعطّل القدرة على البحث عن حلول قابلة للتطبيق على المدى المتوسط دون أثمان باهظة، ويجعلها تحت ضغط الأجندات الخارجية.
يكشف ما سبق ملامح التحدي السياسي الذي تواجهه حركة حماس، ويدعوها إلى البحث عن أطروحات سياسية جديدة قادرة على تحقيق رؤيتها الإستراتيجية وأهدافها التنفيذية بوسائل تكون أكثر انسجامًا مع مكونات السياق الراهن.
قد يرى البعض في هذه الأفكار أوهامًا أو أحلامًا ساذجة مستحيلة، لكنها محاولة للتعامل مع حقائق التاريخ والواقع في آنٍ واحد، ولا تتسمّر عند التاريخ وحده
مشروع القنبلة السياسية النووية
الحركة اليوم بحاجة ماسّة أكثر من أي وقت مضى، إلى استغلال الانتصارات العسكرية الجارية والتقدم بقوة على الصعيد السياسي لترتيب المرحلة القادمة مع القوى السياسية الفلسطينية الوطنية، عن طريق طرح غير تقليدي، يحرك المياه الدموية الراكدة في المشهد السياسي الفلسطيني، ويتجاوز سقف التوقعات الإقليمية والدولية،
وظني أن الأهداف التي يتطلع لها الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق حل الدولة الديمقراطية الواحدة للشعبَين: الفلسطيني واليهودي، وسيكون تبنّي حركة حماس هذا الحلَّ الآن، بمثابة القنبلة النووية السياسية التي ستقلب الموازين وتغيّر المعادلات، وتوفّر مخرجًا لجميع الأطراف من المآزق التي أوجدتها حرب “طوفان الأقصى”.
فهذا الحل يمكنه أن يضع حدًا للعداءات المتسلسلة التي لم تحقق نتائج حاسمة منذ 75 عامًا، كما يوفر حالة من السلام لكلا الشعبَين: الفلسطيني واليهودي على السواء، وهو فوق ذلك يحقق رؤية حماس القائمة على حق العودة إلى فلسطين الكاملة الحرة من البحر إلى النهر، وسيفشل مخططات التهجير والضمّ التي تسعى إليها إسرائيل في غزة حاليًا.
من شأن هذا الحل أيضًا أن يضع حدًا لحمى التطبيع العربي – الصهيوني على حساب القضية والشعب الفلسطيني، ويعالج إشكاليات الانقسام الجغرافي للشعب الفلسطيني والتحديات الاستيطانية التي تواجهه، وهو ينسجم مع الركائز السياسية التي تقوم عليها الدول الغربية الحديثة، كالمساواة الدستورية بين المواطنين بغضّ النظر عن الدين، أو العرق، أو اللون، أو الجنس، وهي الركائز التي لا تستطيع الدول الغربية التنصل منها وإدارة ظهرها لها.
وقد دعوتُ إلى هذا الطرح مرارًا من قبل، وظني أن الفلسطينيين اليوم بحاجة ماسة إليه، وهو بطبيعة الحال ليس أمرًا يمكن الوصول إليه في يوم وليلة، بل قد يحتاج تنفيذه سنوات، يجب أن تتحمل الولايات المتحدة خلالها مسؤولية تعويض الشعب الفلسطيني عما فقده، وإعادة إعمار ما تم تخريبه، كما تحتفظ المقاومة الفلسطينية خلال تلك السنوات بسلاحها وبحكمها لمدينة غزة.
المراحل التنفيذية الرئيسية
سيكون هذا الطرح مدويًا، وسيحدث حراكًا سياسيًا ضخمًا في المستويات: المحلية والإقليمية والدولية كافةً، وسيستغرق وقتًا ليس بالقصير حتى تتم دراسته والتأكد من جديته وجدواه ومدى تفاعل الأطراف المختلفة معه. ومراعاة لذلك يمكن تقسيم المراحل التنفيذية إلى ما يأتي:
- مرحلة إعلان المبادئ: وهي المرحلة التي يتم فيها وقف إطلاق النار، والاتفاق على المبادئ العامة، ووضع أطرافها، وآلياتها، وضماناتها، وشروطها، وسياساتها.
- مرحلة الأعمال العاجلة: وهي المرحلة التي تتزامن أو تلي مرحلة الاتفاق على إعلان المبادئ، وتشتمل على أعمال عاجلة تتضمن الوقف الشامل لإطلاق النار، والإفراج عن المعتقلين والأسرى من الجانبين، وفتح المعابر وإنشاء مناطق إيواء مؤقتة للنازحين، ووقف التصعيد السياسي والإعلامي، وفتح المجال دون قيود للعمالة الفلسطينية في سوق العمل، وتشكيل السلطات اللازمة لإدارة العملية السياسية والخدمات التكنوقراطية في القطاع، ومهام إعادة الإعمار.
- مرحلة رفع الحصار الشامل عن قطاع غزة: وتبدأ هذه المرحلة بعد حوالي عام من بدء مرحلة الأعمال العاجلة، وقد تستغرق 5-10 سنوات، وتهدف إلى رفع الحصار الشامل عن قطاع غزة، وتسهيل حركة السكان منه وإليه، عبر تنفيذ منافذ بحرية وجوية وبرية له، إضافة إلى تحرير أعمال الاتصالات والجمارك والاستيراد والتصدير من القيود الإسرائيلية.
- مرحلة تأسيس الدولة الواحدة: وتشمل أعمال تفكيك النظام السياسي القائم في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، وإعادة بنائه بما يتناسب مع مفهوم الدولة الديمقراطية الواحدة للشعبَين: الفلسطيني واليهودي في جميع أرض فلسطين التاريخية.
قد يرى البعض في هذه الأفكار أوهامًا أو أحلامًا ساذجة مستحيلة، لكنها محاولة للتعامل مع حقائق التاريخ والواقع في آنٍ واحد، ولا تتسمّر عند التاريخ وحده، خروجًا من دُوامة لم تحقق لكل من الفلسطينيين واليهود سوى معاناة لأكثر من 100 سنة.
وكما أسلفت، لن يتم هذا المشروع -إن كتب له أن يرى النور- بين عشية وضحاها، وإنما يحتاج إلى عقود، ولكنها ستكون عقودًا حافلة بالعمل والبناء والاستقرار، واستثمار الطاقات الفلسطينية الإبداعية في خلق واقع جديد قادر على التفوّق والريادة.