جاءَ في الأثر؛ أثر النكتة المصرية، أنّ أحد المغفّلين تلقى أكثر من مئة صفعة على قفاه، على سهوة، ولم ينتبه. أمّا الذكي، المتمتع بالحد الأدنى من الفطنة والإحساس، فينتفض للمسة غير بريئة لا لصفعة، وصفعة القفا تشعل حروبًا، ولا تكفيها مئة “داحس وغبراء”، ولا تحتاج إلى أقلّ من الزير سالم، لاسترداد كرامة بعثرتْها الصفعة. أقول هذا بمناسبة إفاقة متأخرة، بليدة، للبعض بعد “طوفان الأقصى”، 7 أكتوبر 2023، وما تبعه من إبادة لا يخفِي العدو الصهيوني تنفيذه لها، وإعداده خططًا بديلة كلما فاجأته المقاومة الفلسطينية في غزة ببطولات نوعيّة، مستمدة من الحقّ في الحياة.
في 19 نوفمبر 2023 نشرت صحيفة “الأهرام” اعتذارًا لأسامة الغزالي حرب، الدكتور، كاتب العمود اليومي، المستشار بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، عضو مجلس الشورى السابق، الرئيس السابق لمجلة «السياسة الدولية» (1991 ـ 2011).
كتب الغزالي أنه، «كواحد من مثقفي مصر والعالم العربي»، يعتذر عن حسن الظن بالإسرائيليين، وأنه تفاءَل بالسلام، منذ «مبادرة السلام الشجاعة التي أعلنها الرئيس السادات»، وما تلاها من اتفاقيات بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، وأنه تحمّل الإدانات بعد زيارته لإسرائيل، وتمسكه برأيه، وتفاؤله باستكمال «السلام الذي يعيد للفلسطينيين حقوقهم السليبة!». حيرتني علامة التعجب، ممَ يتعجب؟ من السلام؟ من الحقوق؟ من اتفاقيات تعبث بها إسرائيل وتعتبرها «عملية» لا تنتهي؟ المعنى في بطن الغزالي.
تظلّ الثقافة، للبعض، “برستيج” أو مهنة، مهارات تتوسل بعدة شغل متعددة الأغراض. وامتلاك المعارف لا يقترن دائمًا بمسؤولية أخلاقية ولا بموقف إنساني.
قلت للغزالي حرب:
سجلت في كتابي: «الثورة الآن» (2012) مواقف للكثيرين، قبل خلع حسني مبارك، وبعد إسقاط الشعب نظامَه. قلت؛ إن أسامة الغزالي حرب رشح نفسه عام 2005 نقيبًا للصحفيين، وزارنا في “الأهرام المسائي”، وصارحته باستنكاري تقدّمه للترشح، وهو عضو في كيان، تحت رئاسة جمال مبارك، ونخشى أن تتحول النقابة إلى أحد مقارّ الحزب الحاكم.
قال؛ إنه استقال من «لجنة السياسات». ردّدت بأنني لا أضمن ألا يكون خلافٌ قد حدث، حول مصلحة أو أشواق إلى منصب، والوارث يحكم مصر بالفعل، ولا أستوعب أن يجلس كاتب يحترم نفسه في موضع التلميذ أو الموظف، أمام رئيس لجنة لا أحد يعرف طبيعة دورها، ومعظم أعضائها من صغار السن، قليلي الخبرة. وقال الغزالي؛ إنه استقال، ولم أشأ أن أحرجه أكثر.
لكن الغزالي لم يذكر أسباب انضمامه إلى أمانة السياسات، ولم يعتذر عن عضويته تلك، كما لم يعتذر أحد من رجال عهد مبارك. وكانت أمانة السياسات تدير البلاد، وتحكم مجلس الوزراء. هذا معلوم بالضرورة، مهما تكن مراوغات سياسيين خائفين أو طامعين، مثل؛ مصطفى الفقي القائل؛ إن أمانة السياسات «تسهم إلى درجة كبيرة جدًا في وضع الإطار العام للدولة، وتسهم بالأفكار والدراسات شديدة التميز». (“المصري اليوم” 27/ 3/ 2008).
لم يتردد الفقي في الإشادة بدور أمانة السياسات، وتجنب الإشارة إلى أن نسختها الكارثية في العراق، تولاها صدام حسين حين كان نائبًا للرئيس طامحًا للرئاسة، ثم ابنه عدي الصاعد بقوة، تحت جناح أبيه. وبعد يومين اثنَين، وفي الصحيفة نفسها، مدّ الفقي نفسُه يدًا إلى الوارث: «عندما أحضر اجتماع أمانة السياسات أرى حولي معظم العقول المفكرة من المثقفين والعلماء وأساتذة الجامعات في مصر». وقال في برنامج تلفزيوني نشر ملخصه في “المصري اليوم” (31/ 3/ 2008): «الرئيس مبارك وأسرته يعلمون أنني عشت بينهم وولائي لهم».
الفقي باحث عن الأكثر رواجًا، مهووس بالتريند، لا فرق بين إدانته “حماس” قبل “طوفان الأقصى”، وإشادته بالمقاومة وهي تكبد العدوّ ما لم يخسره أمام الجيوش العربية منذ 1948، أو أن يدعي على جمال عبد الناصر أمورًا شخصية لا دليل عليها إلا نَهَم الحكواتي إلى المال من عائد برامج النميمة.
علي سالم مات قبل إعلان وفاته
فلسطين هذه، يا أخي، جبّارة. ما ظلمها أحد إلا أسقطته من الذاكرة. تظلم فلسطين بالاعتراف بالكيان المحتل «دولة». في سبتمبر 2015 فوجئنا بوفاة علي سالم. كاتب موهوب مات قبل الإعلان عن وفاته بأكثر من عشرين سنة، في نهاية 1993 كتب أنه يريد زيارة إسرائيل، لتأليف كتاب يجيب عن سؤالَين: من هم هؤلاء القوم، وماذا يفعلون؟ لا تكفيه، للإجابة، حروب الكيان الصهيوني، وما ارتكبه من اجتياحات ومجازر وحصار وتهجير للملايين الممنوعين من حق العودة. واستبقَ مَن سينتقدونه واتهمهم بالفاشية، «لأنه لا شيء لديكم تقدمونه للسلام، ولم يكن عندكم ما تقدمونه للحرب سوى الضعف والأكاذيب… السلام يصنعه الشجعان وأنتم جبناء، ويطلبه الأحرار وأنتم عبيد، ويحرص عليه الأذكياء وأنتم بلهاء، ويعمل من أجله الأقوياء وأنتم ضعفاء».
ودخل فلسطين في 1994، وفي العام نفسه نشر كتابه: «رحلة إلى إسرائيل»، وفيه أكّد أن الذي بيننا وبين الكيان العسكري الاستعماري حربٌ عقلية، مصدرها الكراهية. وهناك، في الأرض المحتلة، قال لمرافقيه الصهاينة؛ إنه يختلف عن دعاة الحرب، وقرّر المشاركة في صنع السلام، ويريد التخلص من الكراهية التي «تغذيها عواصم الصحراء وأنبياء الفاشية، ولكن عندما يسود السلام المنطقة، وتنتصر الحرية… سينظر الناس خلفهم في دهشة واشمئزاز لما كنا نفعله ببعضنا البعض».
لم يعتذر علي سالم، ولا أي عنصر تطبيعي من جماعة كوبنهاغن، وقد ماتوا، والحي منهم ميّت يتوارى الآن، خجلًا من إرباك المقاومة للمعادلات والمسلّمات، بعد أن ظل يتسوّل سلامًا مستحيلًا، مثل زعماء تبنوا في عام 2002 مبادرة «الأرض مقابل السلام»، وحلّ الدولتَين. ثم هبّت رياح التطبيع فشجّعت نتنياهو على توجيه صفعة عنوانها: «السلام مقابل السلام».
وفي عامه الثامن والتسعين، لا يزال أستاذ الفلسفة مراد وهبة (1926) يكتب مقالين أسبوعيًا، ويدور في فلك الرهان على السلام مع العدو، والتنديد بالإرهاب الجهادي الإخواني، حتى بعد “طوفان الأقصى” لا يوجه صفة الإرهاب إلى كيان بدأ بالإرهاب وبه يستمر، ويحتل دولة ومناطق حيوية مما حولها. وإذا لجأ إلى تسوية فرض مناطق منزوعة السلاح لضمان أمنه، لكن هذا الكيان الحربي العدواني لا يستفز مراد وهبة، حتى بعد الإبادة المعلنة لغزة، والتخطيط لتهجير أهلها.
لسنوات طوال، دافع مراد وهبة عما يراه حقًا لكيان احتلالي، ومدح عبقرية أنور السادات، وتحسَّر على مصير إسحاق رابين، ورأى معاهدة أبراهام الإماراتية الإسرائيلية «توفر تفكيرًا جديدًا حول أسلوب تناول مشاكل المنطقة وتحدياتها»، وأشاد بإلغاء الإمارات، في أغسطس 2020، قانون مقاطعة إسرائيل لسنة 1972.
وفي مقال في “الأهرام” (15 سبتمبر 2020) أيّد قول جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي آنذاك ترامب وكبير مستشاريه: «إن الفلسطينيين لا يمكنهم الاستناد إلى الماضي في صياغة السلام». أي ماضٍ؟ هل مارس هؤلاء الضحايا عدوانًا على أحد؟! ماذا ترك مراد وهبة لصغار هتّيفة التطبيع؟
من البؤس تفريغ الفلسفة من سؤالها، فلا يبقى من جوهرها النقدي إلا انتقاد جرائم الجماعات الإسلامية، ومن البؤس أن يكون إسحاق هرتسوغ رئيس العدو أكثر شجاعة، ويعتذر يوم 29 أكتوبر 2021 إلى أهل قرية كفر قاسم، ويطلب «العفو» من عائلات 49 فلسطينيًا ضحايا مذبحة عام 1956.
من البؤس أن تكون العِلمانية عوراء ترى بعين واحدة.
هروب مراد وهبة
تتيح المواقف فرصًا للمراجعات، على غرار مراجعات قادة الجماعات الإسلامية، ويفلح من ينتهز الفرصةَ للتطهر، فعلها أسامة الغزالي حرب، وهرب منها مراد وهبة إلى الماضي، فيتساءل في “المصري اليوم”، 22 نوفمبر 2023: مَنْ المسؤول عن اغتيال الإمام موسى الصدر عام 1978؟ والإجابة محكومة «بما حدث من بديل لهيئة المحرومين، وهو تأسيس حزب الله برعاية نظام الملالي في إيران. ومن هنا يثار سؤال آخر: هل حزب الله قاتل؟».
وفي حين تستمر إبادة الفلسطينيين في غزة، والإذلال في الضفة، والإرهاب على فلسطينيي 1948، يستفتح وهبة العام الجديد، 2 يناير 2024، بمقال في “الأهرام” يقترح أن تؤسس مصر مركزًا دوليًا «لاجتثاث جذور الإرهاب»، ففيها تأسس الإرهاب بقيام الإخوان عام 1928، «ومن هنا يلزم على المركز تناول حركتي طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان باعتبارهما النموذج الذي يحتذى من قبل المنظمات الإرهابية على مستوى كوكب الأرض… وفي هذا السياق يقال عن هذا النوع من الإرهاب إنه الجهاد الذي يعتبر جوهر الإسلام والمكلف بالتحكم في كوكب الأرض… والمركز في النهاية ليس في إمكانه تجاهل الصراع العربي الإسرائيلي بل ليس في إمكانه تناوله بالأسلوب التقليدي الذي يعني أنه مثل أي صراع آخر؛ لأن الطريق أمامه يكون مسدودًا. ومن هنا تأتي الدعوة إلى حوار عِلماني، وهو الأمر الذي دعوت إليه إثر إعلان كوبنهاغن في 30 يناير من عام 1997».يعني لا اعتذار من مراد وهبة، إصرار أهون من انحطاط أخلاقي للألماني يورجن هابرماس (95 عامًا) الذي تلبّسته روح وحش، فأعلن التضامن مع إسرائيل، وأدان الضحية.
أمثال هابرماس من الطاعنين لا يدّخر لهم العمر فرصة للغفران، وربما للاعتذار. وضمير المنصف، ولو لم يكن عربيًا، لا يخطئ حقيقة احتلال عسكري استئصالي، يمارس إرهاب الدولة، ولا يكفّ عن استهداف غزة في أعوام: 2008 و2014 و2018، ولا تؤثر الصدمات ذات الفولت العالي في الإفاقة، بل إن أسامة الغزالي حرب نشر، في 22 مارس 2023، مقالًا عنوانه: «الصحفيون والتطبيع!»، ولا أعرف سرّ علامة تعجب رافقته إلى مقال الاعتذار، عند الكلام عن تفاؤله بإعادة السلام «للفلسطينيين حقوقهم السليبة!».
الاعتذار شجاعة، واعتذار الغزالي حرب احتاج إلى دماء الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن، وتجاهل اعتراضه «التام» على تجديد الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين قرارَ حظر التطبيع. في مارس 2023 كتب أنه «قرار خاطئ، مهنيًا ووطنيًا وقانونيًا!». علامة التعجب لحرب الذي اعتبر زيارة إسرائيل حقًا شرعيًا لأي مواطن، واستنكر «هذا الكسل المهني الذي تغطيه لهجة حماسية حنجورية كما يقال!». والقارئ النبيه يستغني عن التنبيه إلى أن علامة التعجب للدكتور حرب.
التطبيع الفردي ضلالة شخصية، سكرة قد تدوم وتصحب المطبع إلى قبره، على العكس من تطبيع علوي يرعاه وزير، هكذا فاجأنا فاروق حسني وزير الثقافة المصري، في ربيع 2009، بإشرافه على حادث تطبيعي، شَرَك أسقط كبار موظفيه، ومعهم رموز من مقاومي التطبيع السابقين، تستروا باسم إدوارد سعيد للتضليل، لولا أصوات ناجية، استنكرت ذلك الاختراق. تلك الفتنة تحتاج إلى وقفة خاصة، متأنية.