تحت ثقل الركود الاقتصادي الممتد والتوترات السياسية، تواجه ألمانيا موجة إفلاس غير مسبوقة تهدد أسس اقتصادها العريق، وفق مراقبين.
وشهدت نهاية عام 2024 ارتفاعا بأعداد الشركات المفلسة في ألمانيا بلغ مستويات لم تُسجل منذ 15 عاما.
ووفقا لتقارير صحفية، أعلنت 4215 شركة إفلاسها في الربع الأخير من 2024 وحده، مما تسبب في فقدان حوالي 38 ألف وظيفة، بدت الحكومة أمامها عاجزة عن مواجهة الأزمة.
وتظهر بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي أن حالات الإفلاس قفزت بنسبة كبيرة بلغت 22.9% خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مقارنة بالشهر ذاته من عام 2023.
وحسب مكتب الإحصاء الاتحادي أيضا، فقد تم تقديم طلبات بإشهار إفلاس 10 آلاف و702 شركة في النصف الأول من 2024 بزيادة بنسبة 24.9% عن النصف الأول من العام السابق.
أمام هذه التحديات، بدا المشهد الرسمي عاجزا، إذ قال المتحدث باسم وزارة الاقتصاد الألمانية شتيفان هاوف إن “الاقتصاد الألماني يواجه تحديات كبيرة حاليا، مع مزيج من مؤشرات إيجابية وأخرى تستدعي جهودا إضافية”.
وأضاف في إفادة للجزيرة نت: “نحتاج لتحسين شروط المنافسة، وضبط أسعار الطاقة المرتفعة، وتسريع إصلاحات تشريعية مثل قانون هجرة الكفاءات وتحسين ظروف تأسيس الشركات بغرض تمكينها كما في مبادرة تطوير رأس المال”.
وهذا الشهر ذكر رئيس قسم أبحاث الإفلاس في معهد هاله للأبحاث الاقتصادية شتيفن مولر أن حالات إفلاس الشركات في ألمانيا ارتفعت إلى مستويات مماثلة للأزمة المالية عام 2008.
وقال “نحن في النطاق الذي يمكن أن تصل فيه بعض الأشهر بسهولة إلى أعلى مستوياتها منذ 20 عاما”، وأضاف مولر “في وقت الأزمة المالية، كانت لدينا حوالي 1400 شراكة وشركة معسرة شهريا، والآن وصلنا إلى هذا المستوى مرة أخرى”.
أعباء تثقل كاهل الاقتصاد
ومقابل التطلعات والآمال في التصريحات الرسمية، يبدو الواقع مختلفا، وتشرحُ الدكتورة نجاة عبد الحق، خبيرة الشؤون الاقتصادية الأوروبية، جذور هذه الأزمة بقولها: “منذ حرب أوكرانيا، شهدت ألمانيا ارتفاعا غير مسبوق في أسعار الطاقة، بالإضافة إلى تأخرها في عمليات الرقمنة والتطور التكنولوجي، وهي أمور غير متوقعة من أكبر اقتصاد أوروبي”.
وتضيف الخبيرة للجزيرة نت أن نقل بعض الصناعات إلى خارج ألمانيا بسبب ارتفاع التكاليف كان أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تصاعد هذه الموجة من الإفلاسات، كما أن المنافسة المتزايدة مع الصين، خاصة في قطاع السيارات الكهربائية، تركت أثرا كبيرا على أحد أعمدة الصناعة الألمانية.
وأشارت تقارير معهد لايبنتس لأبحاث الاقتصاد إلى أن موجة الإفلاس شملت تقريبا كل القطاعات، باستثناء العقارات، والإسكان، والفندقة، مما يعكس آثار التكاليف المتزايدة والضغط الذي تواجهه الشركات.
ويرى شتيفن مولر أن “أسعار الفائدة المنخفضة والإعانات الحكومية خلال جائحة كورونا كانت تمنع الإفلاس مؤقتا، لكن مع إلغاء هذه المساعدات وارتفاع أسعار الفائدة بدأ تأثير الأزمة يظهر بقوة اعتبارا من عام 2022″.
العيون ترقب 2025
ولا يبدو العام الجديد أكثر إشراقا، فمع استمرار أزمات الأعوام الماضية، تتوقع مؤسسة كريدت ريفورم ارتفاعا ملحوظا في حالات الإفلاس ابتداء من فبراير/شباط 2025.
أما اتحاد الصناعات الألماني فقد أطلق تحذيرا صارخا في خطته الأخيرة، مشيرا إلى أن ألمانيا تفقد جاذبيتها كوجهة للاستثمار. وجاء في بيان للاتحاد -حصلت الجزيرة نت على نسخة منه- أن “الإصلاحات الحالية لم تعد كافية. يجب أن نركز على تعزيز قوى النمو الاقتصادي بدلا من التكيف مع الركود”.
البيروقراطية العدو الخفي للنمو
ولا يكاد ينكرُ أحد في ألمانيا البيروقراطية المهولة في مختلف القطاعات، وحقيقة أنها تشكل عبئا إضافيا على الاقتصاد الألماني، وأشار معهد “إيفو” للاقتصاد في تقريره الأخير إلى أن التكاليف الناتجة عن البيروقراطية تصل إلى 146 مليار يورو (نحو 150 مليار دولار) سنويا.
وقال رئيس المعهد أوليفر فالك إن “التقاعس عن الإصلاح مكلف للغاية مقارنة بالعائد المحتمل الذي قد يتحقق من تقليل البيروقراطية”، وأضاف “إذا استطاعت ألمانيا اللحاق بالدانمارك في رقمنة الإدارة العامة، فسنشهد ارتفاعا في الناتج الاقتصادي يصل إلى 96 مليار يورو سنويا”.
الحكومة على المحك
ومع استمرار أزمة الطاقة، وتعثر الإصلاحات الهيكلية، وعدم الاستقرار السياسي الناتج عن انتظار تشكيل حكومة جديدة عقب الانتخابات المقبلة في فبراير/شباط المقبل، يبدو المشهد قاتما.
وتعلق الدكتورة نجاة عبد الحق بقولها إن “ألمانيا بحاجة ماسة إلى خفض أسعار الطاقة، وتسريع الرقمنة، وتخفيف البيروقراطية لضمان بقائها ضمن السباق الاقتصادي العالمي”.
وتقف ألمانيا -القاطرة الاقتصادية لأوروبا- أمام تحدٍّ حقيقي لاستعادة قوتها المحركة، وستجد الحكومة الجديدة نفسها أمام مهمة ليست سهلة، لإيجاد حلول عملية تقود ثالث أكبر اقتصاد عالمي مجددا وفق مؤشرات التحسن والنمو، لكن ذلك سيكون مرهونا بالنجاح في تشكيل حكومة قوية أو ائتلاف متماسك يضمن السير نحو مستقبل واضح المعالم، وفق مراقبين.