في خضمّ الفوضى التي تسودُ العالم، وازدياد حدّة الحروب والجرائم البشعة، يبرز تساؤلٌ هامّ حول دور الأمم المتحدة في ظلّ هيمنة الولايات المتحدة على المنظمة الدولية وعجزها عن وضع حدّ لجرائم الإبادة في غزة. ومنذ تأسيسها عام 1945، واجهت الأمم المتحدة العديدَ من التحديات في تحقيق أهدافها، من أهمّها حفظ السلام والأمن الدوليين، وتعزيز التعاون الدولي، وحماية حقوق الإنسان. ولكن مع تفكُّك الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين، برزت الولاياتُ المتحدة كقوَّة عظمى وحيدة، ممّا أدّى إلى تهميش دور الأمم المتحدة، وجعلها أداةً في يد الولايات المتحدة لفرض رؤيتها على العالم.
في هذا المقال، سنناقش ما إذا كانت الأمم المتحدة قد فقدت مبررَ وجودها في ظلّ هيمنة الولايات المتحدة، وتوفير الغطاء الكامل لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وسنُسلّط الضوء على التحديات التي تواجه المنظمة الدولية، وإمكانية إصلاحها لكي تصبح أكثر فاعليّة في تحقيق أهدافها.
من يعيق إصلاح الأمم المتحدة؟
في صيف عام 1945، قطعت الدول المؤسِّسة للأمم المتحدة على نفسها عهدًا بأن تجعل العالم مكانًا أفضل. فهل استطاعت الأمم المتحدة تحقيق هذا الهدف؟ يعتبر التعاون بين الدول مبدأ أساسيًا لتأسيس الأمم المتحدة، فهل كرست الأمم المتحدة نفسها كحارس للسلم والأمن الدوليين، وراعٍ لحقوق الإنسان، وحامٍ للقانون الدولي؟ وهل استطاعت الأمم المتحدة وفق هذا المعنى وضع حدّ لجرائم الإبادة بحق سكان قطاع غزة؟
لقد تقلص دور الأمم المتحدة بعد انهيار الثنائية القطبية بتفكك الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين، واعتماد الولايات المتحدة الأميركية على طرقها الخاصة للسيطرة على الوضع الدولي الجديد، بحيث أصبح النفوذ الأميركي واضحًا من خلال قدرة أميركا على فرض رؤيتها على المنطقة الدولية بما ينسجم والرغبة الأميركية الانفرادية في السيطرة على العالم.
لم تفضِ اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المتكررة إلى حلول مجدية تنهي النزاعات المستمرة والحروب المفتوحة على أكثر من جبهة. ولأن العالم بحاجة إلى مؤسسات دولية تحفظ الاستقرار الدولي، فإن ذلك يستدعي إصلاح الأمم المتحدة. غير أن هذا الإصلاح يحتاج بدوره إلى إصلاح النظام العالمي المختلّ، من نظام قائم على الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب.
يقترح دبلوماسيون سابقون ومسؤولون في الأمانة العامة للأمم المتحدة، إعادةَ تشكيل مجلس الأمن عبر السماح بضمّ عدد أكبر من الدول لعضويته، بالإضافة إلى إصلاح نظام العضوية والتصويت.
لكن إن كانت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة العالمية الرائدة والممول الرئيسي لمنظومة الأمم المتحدة- (22 % من الموازنة العامة للأمم المتحدة، و27 % من مهمات حفظ السلم)- فهل يمكن أن تكون هناك إصلاحات خارج إرادتها، أو تتعارض مع مصالحها!
يرى بعض المحللين أنه مخطئ جدًا من يعتقد أن أميركا تريد إلغاء الأمم المّتحدة والمنظمات الدولية المرتبطة بها، وهو ما ذهب إليه عدد كبير من المحللين والكتّاب. إن بقاء الأمم المّتحدة والمنظمات الدولية، هو مصلحة أميركية بالدرجة الأولى، ما دام أن قوة أميركا الكبيرة تخولها تجاوز هذه المنظمات متى ما تشاء، والعودة إليها عندما تحتاجها.
الولايات المتحدة الأميركية تعيق تطبيق القانون الدولي الإنساني:
إن هناك نظامًا قانونيًا متكاملًا يتعلق بتفعيل قواعد المسؤولية الدولية في مواجهة الدولة التي ترتكب جرائم دولية، وهو ما ينطبق على حالة الاحتلال الإسرائيلي بامتياز، الذي ارتكب ويرتكب مختلف أنواع الجرائم الدولية المعروفة، من عدوان ترافق مع احتلال وضمّ، إلى انتهاك فجّ لاتفاقيات جنيف وقواعد لاهاي المنظمة لحالة الاحتلال الحربي، وصولًا إلى حدّ ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة بحق المواطنين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا سيما في قطاع غزة.
برغم ذلك، لم يجرِ تفعيل أيٍّ من صور المحاسبة والجزاء في مواجهة إسرائيل، رغم كل ما ارتكبته وترتكبه حتى الآن. ويعود ذلك بصورة أساسية إلى تمتع إسرائيل بمظلة حماية أميركية تقيها الخضوع لقواعد القانون الدولي وتحرّرها من التزام مبادئ الشرعية الدولية وقيمها؛ فالفيتو الأميركي والدعم السياسي والاقتصادي والعسكري كانا دومًا لا يشكّلان فقط حمايةً لها من إعمال قواعد المسؤولية الدولية ضدها، بل أيضًا دافعًا نحو ارتكاب المزيد من الجرائم الدولية، وتشجيعًا على التمسك بموقفها الرافض تطبيقَ قرارات الأمم المتحدة. وهي سياسة تطرح إشكالية مساءلة الولايات المتحدة الأميركية نفسها لعدم تحمّل مسؤولياتها كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولعدم التزامها بما جاء في ميثاق الأمم المتحدة فيما يتعلق بردع المعتدي وعدم مساعدته.
إن التمنّع الأميركي على فرض القانون الدولي الإنساني، كمناورة مخادعة؛ بحجة تعقيده للمفاوضات والعقبات التي يمكن أن تؤدي إلى تأخير أو فشل عملية السلام، ذلك التمنع هو الذي أدى فعلًا إلى موت عملية السلام، وأتاح لإسرائيل الدولة القائمة بالاحتلال فرض وقائع يصعب تجاوزها حين تكون هناك مفاوضات جادة
إن موقف الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بالنسبة للقضية الفلسطينية يستند إلى عوامل عديدة، منها؛ العامل الأيديولوجي، وحجم المصالح الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين، ويستند إلى حجم المساهمة المالية في موازنة الأمم المتحدة، الذي يصل إلى 22% من إجمالي مساهمات الدول الأخرى.
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عددًا من القرارات (خاصة عام 1999) – وذلك بعد عدم احترام إسرائيل التزاماتها الدولية تجاه السكان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة (البحث في نقاط الحل النهائي) – تدعو فيها إلى عقد اجتماع للأطراف السامية المتعاقدة للبحث في الإجراءات الكفيلة بإجبار إسرائيل على تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إن مسألة ما إذا كانت إسرائيل تنتهك الاتفاقية أو لا، وما إذا كانت الاتفاقية تنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد حُسمت في السابق، والهدف الوحيد للمؤتمر هو اتخاذ قرار بشأن التطبيق. ولكن وبضغط من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين قاطعتا المؤتمر آنذاك، تأجّل المؤتمر بعد مرور 15 دقيقة على انعقاده دون اتّخاذ أي إجراءات لتطبيق الاتفاقية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
استغلّت الولايات المتحدة مسألة عدم وجود نزاع مسلح مفتوح على الأرض، وحجة “إعطاء فرصة للسلام”؛ لتبرير هذا التسييس الفاضح للقانون الإنساني الدولي، وهو ما شكّل إحباطًا كبيرًا للمجتمع المدني العالمي آنذاك.
تبرز أهمية عقد هكذا مؤتمر، فيما لو عُقد، في أن الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة لم تجتمع مطلقًا منذ عام 1949 لمناقشة تطبيق الاتفاقية على الأرض. والأهم من ذلك أن هذا المؤتمر كان من المنتظر أن يقدم بداية تطبيق آليات الإلزام بالمعاهدة لجهة مسؤولية جميع الأطراف المتعاقدة لضمان عدم خرق أية دولة موقعة لبنود تلك الاتفاقية.
إن التمنّع الأميركي على فرض القانون الدولي الإنساني، كمناورة مخادعة؛ بحجة تعقيده للمفاوضات والعقبات التي يمكن أن تؤدي إلى تأخير أو فشل عملية السلام، ذلك التمنع هو الذي أدى فعلًا إلى موت عملية السلام، وأتاح لإسرائيل الدولة القائمة بالاحتلال فرض وقائع يصعب تجاوزها حين تكون هناك مفاوضات جادة. وموضوع حل الدولتين مثال صارخ على هذا الوضع، حيث إنه لم يعد هناك من إمكانية عملية لإقامة دولة فلسطينية؛ بسبب سرطان الاستيطان في الضفة الغربية والقدس المحتلتين.
ويُعَدّ الموقف الأميركي موقفًا متناقضًا مع نفسه؛ فالولايات المتحدة كانت قد صادقت على اتفاقية جنيف عام 1949، وأعلنت بذلك خضوعها للاتفاقية واقتناعها بإلزاميتها، حيث تطلب الاتفاقية من الدول الموقعة احترامها وضمان احترامها.
ولكن في المقابل، عارضت بشدة جميع محاولات الأمم المتحدة لانتقاد سجلّ إسرائيل الأسود في حقوق الإنسان، وكذلك نقضت بواسطة حق النقض العديد من مشاريع قرار مجلس الأمن التي تطالب إسرائيل بالخضوع للقانون الدولي. (ليس آخرها إحباط مشاريع قرارات في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في قطاع غزة)
والمفارقة العجيبة أيضًا، أنّ الولايات المتحدة، الدولة الأقوى في عالم اليوم، كانت قد وافقت على قرارات مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 وعلى القرار 271 لعام 1969 القاضي بإبطال الأعمال الخاصة بتغيير وضع القدس، ويدعو إسرائيل إلى التقيّد باتفاقية جنيف لعام 1949 والقانون الدولي. وفي مقابل ذلك، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض أكثر من 114 مرة لحماية إسرائيل من قرارات مجلس الأمن الدولي، وهدَّدت عشرات المرات باستخدامه ضد أية إدانة لها، وإذا ما عجزت فإنها تعمل على تخفيف لهجة القرارات الأخرى الصادرة عن الأمم المتحدة.
ومن المهم قوله:
إن الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، ولها مصالح تمتد إلى جميع بقاع الأرض، وقدرة على التدخل في كافة أرجاء العالم، وهي تمتلك من أدوات التأثير ما يجعلها قادرة على تطبيق القانون الدولي لو أرادت ذلك.
يعتبر مجلس الأمن الذراع الأقوى للأمم المتحدة، من أهدافه الحفاظ على السلم الدولي، وحل النزاعات، وفرض احترام القانون الدولي. ولكن الولايات المتحدة الأميركية كانت -وما زالت- تقف عائقًا أمام اتخاذ مجلس الأمن الدولي العديدَ من القرارات التي من شأنها أن تعزز مكانة القانون الدولي، في أكثر من موضع منها ما يتعلق بالقضية الفلسطينيّة.
لا تتاح الفرصة الكاملة أمام الولايات الأميركية لتطويع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي البرلمان الدولي؛ بسبب أن الأعضاء والبالغ عددهم 193 عضوًا لديهم فرصة متساوية في التصويت، بعكس مجلس الأمن. لكن من المهم معرفة أن قرارات الجمعية العامة لا تحمل صفة إلزامية، بعكس ما قد يصدر عن مجلس الأمن بموجب الفصل السابع إيجابًا أو سلبًا. إن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيات وهيئات دولية (الميثاق العالمي للهجرة، ومنظمة الصحة العالمية، منظمة اليونسكو، اتفاق باريس للمناخ..)، يعتبر انتكاسة للقانون الدولي ولمسار الأمم المحتدة بأكملها.
هذه القرارات الأميركية تقوض الجهود الدولية لجعل العالم أكثر استقرارًا، وأكثر تعاونًا، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات الهائلة التي تواجه البشرية، مثل (المناخ، اللاجئين، المهاجرين، الأوبئة والأمراض المعدية…).
إن انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان، بسبب انتقاده سلوك الولايات المتحدة في موضوع المهاجرين، وبسبب انتقاد إسرائيل لسجلّها الأسود في موضوع انتهاك حقوق الفلسطينيين، يشكل انتكاسة لمنظومة حقوق الإنسان الدولية، وذلك لسببين هامين:
- أولهما: أن الولايات المتحدة هي الدولة الأهم في العالم
- وثانيهما: أن انسحابها يشجع على المزيد من القتل والتشريد والحروب. إن توقيع الولايات المتحدة عشرات الاتفاقات الثنائية لعدم وضع جنودها أمام مساءلة العدالة الجنائية الدولية، يشجّع، دون شك، دولًا أخرى على ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، كما يقوض جهود المحكمة الجنائية الدولية في فتح تحقيق في الجرائم، وعدم تمكينها من مباشرة ولايتها القضائية.
كما يوجد حالة من الإحباط لدى ذوي الضحايا. إن تصنيف حركات تحرر وطني على أنها منظمات إرهابية، يتعارض مع قواعد القانون الدولي ويدفع للتطرف والإرهاب الحقيقي. ومع أن الجمعية العامة قد أصدرت عدة قرارات تنصّ على حق حركات التحرر الوطني “باستخدام جميع الوسائل الضرورية من أجل الاستقلال”، إلا أن الولايات المتحدة تقوم بتصنيف المنظمات أو الجماعات في لائحة الإرهاب استنادًا إلى اعتبارات سياسية.
إن الفوضى التي تسود العالم، بسبب انتشار الحروب والجرائم البشعة بحق الإنسانية ومساهمة الولايات المتحدة في ذلك، بما تملك من قدرات ونفوذ في هذا المجال، ثم توفير الغطاء الكامل لجرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين (بما فيها الحقوق الجماعية المتمثلة بالحق في تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف)، ثم عدم قدرة الأمم المتحدة على فرض قراراتها، ثم البيروقراطية، ثم عدم تمثيل الدول بشكل عادل، خصوصًا في مجلس الأمن.
كما أن مظاهر العجز والضعف لدى وكالاتها المختلفة، فيما يخص الوضع الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا تخفى على أحد. ومع كل ذلك فإنه من الموضوعية بمكان ذكر أن الأمم المتحدة لا تزال تساهم في حل بعض النزاعات وثمة تعاون في مجالات مختلفة، كما أنها لا تزال تقدم المساعدات الإنسانية للكثير من المحتاجين في كثير من دول العالم.
ولكن ومع هذه الإنجازات فإن ثمة أهدافًا كبرى لم تصل الهيئة الأممية لتحقيقها بعد، أهمها حل الصراع العربي – الإسرائيلي، (وهو من عمر الأمم المتحدة نفسها) على أسس عادلة قائمة على قواعد القانون الدولي بما يحقق للفلسطينيين حقهم في تقرير المصير، وعودة مئات آلاف اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم. فهل فات الأوان لإنقاذ الأمم المتحدة؟