الزحف المهيب لجحافل الفلسطينيين المهجّرين صوب بيوتهم في شمال غزة وصف بـ «طوفان العودة». وذلك تعبير دقيق وعميق الدلالة، استلهم كلمة «الطوفان» التي أطلقت على عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كما استدعى كلمة «العودة» التي كانت ولا تزال عنوانًا لحُلم الفلسطينيين المعلق منذ 77 عامًا، ثم تجاهله البعض ونسوه وأيقظه «طوفان الأقصى» من سباته. حتى اعتبر أحدهم أن مشهد الزحف بمثابة تمهيد «بروفة» للعودة الكبرى المحكية في روايات الجَدات إلى يافا، وعكا، وحيفا، واللد، والرملة، وعسقلان، وصفد.
المشهد كان مبهرًا وحافلًا بالدلائل والرسائل؛ ذلك أننا نعرف طوال سنوات الصراع أنّ أعدادًا غير قليلة من الفلسطينيين، الذين كتبت لهم الحياة، هاجروا إلى المنافي البعيدة أو إلى دول الجوار، ولم يعودوا إلى وطنهم إلا لِمامًا، لكنها المرّة الأولى التي يهجّر فيها مئات الألوف منهم رغمًا عنهم، ثم يفرَض على العدو المتغطرس أن يعودوا إلى بيوتهم بعد تدميرها.
ناهيك عن أنها المرة الأولى في تاريخ الصراع التي شنت فيها المقاومة الفلسطينية هجومًا كبيرًا بمبادرة منها ضد إسرائيل فوق الأرض التي اغتصبتها، وقصفت خلالها بعض مدنها، وأجبرت الملايين من سكانها على اللجوء إلى المخابئ.
وهي المبادرة الفلسطينية الشجاعة التي تجاوزت الاشتباكات السابقة مع العدو التي حدثت خلال سنوات الصراع. ولا ننسى أننا نتحدث عن المعركة الأخيرة الأهم التي خاضها الفلسطينيون وحدهم دون أي عون أو دعم عربي، في حين كانت الولايات المتحدة تقف طوال الوقت في الخندق الإسرائيلي.
***
استوقفني حديث أحد العائدين الذي قال لمراسل تلفزيوني إنه فقد كلَّ شيء: زوجتَه وأولادَه الثلاثة وعمله وبيته وأباه وشقيقته، وكل ما يملك في الدنيا، لكنه متلهّف للعودة إلى داره لكي يعثر على مقابرهم للصلاة عليهم، ثم يقضي بقية عمره فوق أنقاض بيته، وهو يحتضن ترابه ويشتاق إلى إعادة بنائه.
وذكرني ذلك بما كتبه أحد المعلقين الإسرائيليين في المقارنة بين لهفة الفلسطينيين على العودة إلى بيوتهم المدمرة، وبين طوابير الإسرائيليين الذين يتزاحمون أمام مكاتب الطيران في سعيهم لمغادرة إسرائيل عائدين إلى بلادهم الأصلية بعدما طالت أشهر الحرب. وقال في هذا الصدد إن المقارنة بين الصور تعرّي الحقيقة وتكشفها، وتبين الفرق بين أصحاب الأرض الحقيقيين، وبين الوافدين الطارئين عليها.
هذا قليل من كثير تابعناه وشاهدناه في غزة خلال العودة المثيرة التي أدهشت العالم وفاجأته، كما صدمت الإسرائيليين الذين انتظروا تجليات «النصر المطلق» الذي تحدث عنه رئيس وزرائهم، بعد أن وعدهم بالقضاء المبرم على حماس، وبالعودة المظفرة للأسرى بقوة الجيش «الذي لا يقهر». لكنهم فوجئوا بالحقائق الصادمة التي فضحت أكاذيب قيادتهم وخداعها.
وفي مقابل ذلك تحدث بعض الكتّاب عن القوة الكامنة للشعب الفلسطيني، الذي أثبتت الأحداث أنه هو الذي لا يقهر. حتى السفير الأميركي في إسرائيل الذي انتهت ولايته في تل أبيب “جاكوب ج ليو” نشرت له «تايمز أوف إسرائيل» حوارًا وداعيًّا حذّر فيه إسرائيل من تحولات المستقبل، وأن عليها الانتباه إلى أنه خلال العشرين سنة القادمة ستتولى قيادة الولايات المتحدة وبقية دول العالم أجيالٌ لا تعرف الهولوكوست أو حرب 1967، بل الحرب الحالية على غزة.
أتابع حوارًا عبثيًا حول سيناريوهات النصر والهزيمة. ولا أعرف جدواه الآن بعد سيل الشهادات التي تحفل بها وسائل الإعلام الإسرائيلية. وهي التي ما برحت تتساءل موجهة الاتهام لنتنياهو ومن لفَّ لفَّه قائلة أين النصر المطلق، حتى ذهب أحد وزرائه إلى أبعد من ذلك، ووصف المشهد الفلسطيني الراهن بأنه استسلام مطلق.
يحدث ذلك بعد أن فشل صاحبهم وجيشه في تحقيق أي هدف إستراتيجي تبجّح به وهو يستعرض تهديداته بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. ناهيك عن أن أسئلة الصائدين والكارهين، تتضاءل أمام اعتبار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو – ووزير دفاعه السابق- مجرمَ حربٍ مطلوبًا للمحكمة الجنائية الدولية، في حين أن جيشه ونظامه متّهمون بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
لست في وارد الدخول في هذا الجدل؛ لأن ما جرى يطرح أسئلة كبيرة ويفتح ملفات مهمة للغاية جديرة بالمناقشة والحسم. ذلك أننا في معركة الطوفان وجدنا الإدارة الأميركية ومعها بعض الأنظمة الغربية تدعم العدوان الإسرائيلي وتباركه عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، كما أنها سعت إلى إطالة أمد الحرب في مجلس الأمن؛ لتمكين إسرائيل من إنجاز مهمتها في التدمير والإبادة، حتى بدا لبعضنا أننا بصدد قدر مكتوب لا مفرّ منه، ولا سبيل إلى ردّه.
وصدّقنا الأكذوبة حتى انسقنا وراء الاحتلال وأصبحت غاية مرادنا أن تحتمل إسرائيل وجودنا في ظل ما سمّي بحلّ الدولتين. ومن المفارقات أن ما قبلنا به كارهين يرفضه النظام الإسرائيلي الرسمي جملة وتفصيلًا. ومن وزرائها من أعلن على الملأ أنهم يتطلعون في المستقبل إلى إقامة دولة يهودية تضم في حدودها ستّ دول عربية.
والأكثر دهشة أن ذلك الكلام الصادم لم يقابل بأي غضب يذكر من جانب الدول المشار إليها. الأدهى من ذلك والأمرّ أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب دخل على الخط بفتوى إسرائيلية خبيثة دعا فيها إلى تهجير فلسطينيي غزة و«استضافتهم» للأبد في مصر والأردن.
في هذا الصدد، لا مفرّ من الاعتراف بأن عملية طوفان الأقصى، سلطت أضواء كاشفة على الكثير مما يجري حولنا فلسطينيًا وإسرائيليًا، وعربيًا، وإقليميًا ودوليًا. وقد أتاح لنا ذلك أن نرى ما كان خافيًا أو مستورًا على تلك الجبهات. وكانت القوة الفلسطينية الكامنة مفاجئة لنا.
كما أن الاستعلاء والنشوة الإسرائيلية أغرتا بعض قياداتها بالجهر بما كان مسكوتًا عنه فيما يخصّنا. إذ تحدثوا علنًا عن ضمّ الضفة الغربية، التي نهبوها، للمستوطنين، بحيث تصبح جزءًا من دولتهم على غرار الجولان المحتل، وعن أرض إسرائيل التي سكنها اللبنانيون إلى غير ذلك من المعتقدات التي تربى أجيال الإسرائيليين عليها بأن العرب هم الوافدون الطارئون الذين سكنوا أرض إسرائيل.
***
مشكلتنا ليست مع الغلاة الذين يسوّقون الخرافات ويتعلّقون بالأساطير؛ لتبرير الاحتلال والتوسع فيه. لكنها مع العقلاء الذين لم يدركوا أن عالم ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، اختلف عن العالم الذي سبقه، وأن ثمة متغيرات جوهرية ملموسة لاحت بوادرها في العالم الجديد. ولإسرائيل التي فرضت علينا نصيبًا وافرًا من تلك المتغيرات، وثمة مؤشرات عدة دالة على ذلك؛ كتحوّلها إلى دولة منبوذة، تدينها العدالة الدولية، وتلاحق بأسوأ التهم التي تعرفها البشرية، وهي الإبادة الجماعية للفلسطينيين.
كما أن كبار مسؤوليها وجنودها معرّضون للملاحقة والاعتقال في العديد من دول العالم، بتهم ارتكاب جرائم حرب، الأمر الذي أدركته السلطات الإسرائيلية مؤخرًا، وبدأت في اتخاذ إجراءات جادّة لتحذيرِهم من ذلك الاحتمال.
لم نتحدث عن التفاعلات داخل إسرائيل بعد وقف القتال رغم اللغط المثار حولها، لكننا لا نحتاج إلى مزيد من الأدلة لكي نقرر أنها في عالم ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أصبحت دولة سيئة السمعة بين أنصارها الذين حملوها طوال الوقت، حتى إن وحشيتها تفوقت في بعض الأحيان على أداء النظام النازي الذي يضرب به المثل في انتهاك إنسانية البشر، خصوصًا بعدما شاهدها الجميع في ذلك على الشاشات رأي العين.
تتعدد المعاني والرموز التي تثيرها العودة المهيبة من النازحين إلى بيوتهم في شمال غزة، ومنها ما يتجاوز شجون العودة وأحلامها على أهميتها. ذلك أن بعضها يتعلق بدور الأشقاء العرب في تعمير القطاع بعدما دعا الرئيس الأميركي إلى ضخّ ملياراتهم في تعمير كاليفورنيا بعد الحرائق التي اجتاحتها مؤخرًا.
الأبعد والأهم من ذلك أن اليقظة الفلسطينية الكبرى التي حدثت في طوفان الأقصى اعتبرها البعض ملهمة لتحولات عالم ما بعدها في الإقدام والجسارة على تحدي طواغيت قوى الهيمنة والظلم في العالم.
وهو ما يسوغ لبعض المحللين أن يربطوا بين تداعيات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبين إسقاط نظام الأسد في سوريا بكل جبروته وسلطانه، وهي ذات الجسارة التي شجعت جنوب أفريقيا على تحدي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وأجبرت المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرات اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعها – رغم الضغوطات والتهديدات الدولية للمحكمة.
وهي ذاتها التي شجعت 8 من دول الجنوب على تشكيل مجموعة دولية قانونية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إلى غير ذلك من التحركات التي تعلن التمرد على طغيان الدول الكبرى التي استأثرت بالقرار الدولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي.
***
من هذه الزاوية بوسعنا أن نقول إن طوفان الأقصى لم تكن إطلاقًا للقوة الكامنة للوطنية الفلسطينية في مواجهة التغوّل الإسرائيلي فحسب، ولكنها صارت علامة تاريخية فارقة على قدرة المستضعفين على تحدي قوى الطغيان والاستكبار في العالم.
وربما سجّلت الثورة الإسلامية في إيران نقطة في ذلك الملف قبل نحو نصف قرن، حين انطلقت بأهداف تضمنت تحدي الهيمنة الأميركية والإسرائيلية، ولكن الظروف الإقليمية والجغرافية لم تتحْ للتجربة أن تنضج وتؤتي ثمارها المرجوة آنذاك لأسباب يطول شرحها وتحتاج إلى دراسة منفصلة داخلية وخارجية خاصة.
ثمة حقيقة مهمة ينبغي أن نستخلصها مما نشاهده في هذا العالم الجديد، وهي أننا إزاء ظرف تاريخي له شواهده القوية جاهز لإطلاق طاقات التمرد على المخططات التي تسعى إلى تشكيل نظام عالمي جديد، بعدما انكشفت عورات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي وقف صامتًا ومنحازًا إلى جانب قوى الاحتلال والإبادة.
وفيما يخصّنا على الأقل، فمن حقنا أن نرفض ونقاوم بكل السبل التهجير وسياسة ضم الضفة الغربية، بل وأن نرفض أيضًا حل الدولتين الذي يروج له البعض، في حين يرفضه الكنيست واليمين الإسرائيلي المدعوم شعبيًا. علمًا بأننا لسنا مضطرين للتنازل عن بعض أرضنا لغرباء مغامرين قادمين من بولندا وشيكاغو وغيرهما.
لم يعد لدينا خيار آخر سوى استيعاب مستجدات عالم ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، خاصة بعد أن أبطلت المقاومة الفلسطينية مشروع احتلال شمال غزة الذي تصور الجميع، بحكم مسلمات واقع الصراع منذ 1948، أنه قد سُلب أيضًا.
تتجاوز أهمية عودة النازحين الفلسطينيين إلى الشمال رمزية العودة في حد ذاتها. فهي ترسخ أمرًا آخر، جديدًا علينا -عربًا وفلسطينيين- وهو أنه بالإمكان عرقلة وإفشال الإرادة الإسرائيلية، بل وهزيمتها.
وهو إدراك حديث لدينا في معناه ورسالته شديدة الأهمية في الوعي الجمعي العربي، وأنه بالإمكان، فعلًا، وليس حُلمًا، (رغم الثمن الفادح) وقف واقع إسرائيلي يستهدف احتلال الأرض، وإجهاض مخططات إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد على مقاس توازن قوى عالم ما قبل طوفان الأقصى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.