“قال بعض أهل النظر، وقد عاين الأهرام: «كلّ بناء يخاف عليه من الدّهر، إلا هذا البناء فإني أخاف على الدّهر منه»”
شهاب الدين النويري {660-733هـ} – “نهاية الأرب في فنون الأدب”.
قبل ثلاثة آلاف وخمسمئة عام، لمع نجم مهندس مصري نعرف أعماله اليوم، يُدعى “سننموت”. عمل سننموت في زمن الملكة “حتشبسوت”، خامس ملوك الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة (نحو 1479-1458 قبل الميلاد)، وبنى لها معبدها الشهير في منطقة الدير البحري، وهو ما دفعها إلى مكافأته بأن منحته عشرات الألقاب، قبل أن تهبه النعمة العظمى: أن يبني مقبرته بجانب معبدها الجنائزي.
وفي حال قادتكَ الأقدار لزيارة مقبرة “سننموت” غير المكتملة البالغ طولها نحو ٩٧ مترا، ودخلتَ إليها عبر درجها شديد الانحدار، فلن تخطئ عينك الزخرفة البديعة الكفيلة بأن تجذب إليها كل زائر وباحث. أما إذا نظرت إلى الأعلى، فستجد سبب شهرة المقبرة: سقفها، حيث رسمٌ لتقويم فلكي يخطط السماء ومواقع النجوم في عهد الملكة.
تلك الزخارف تذكُر موعد ظهور “سيبا إن ساح”، ومعناه “نجم الملك أوزوريس”، وإذا دققتَ النظر فستظهر أمامك في سقف المقبرة ثلاثة نجوم كبيرة، نعرفها اليوم باسم نجوم حزام الجبار، وهي التي قامت على أكتافها مقولات لا حصر لها تدّعي فك لغز الحضارة المصرية، لعل أشهرها هو أن أهرامات الجيزة الشهيرة قد بُنيت لتحاكي هذه النجوم الثلاثة، وهو ما يُطلق عليه “نظرية ارتباط الجبار”.
أنيس منصور وأشياء أخرى
لغز الحضارة المصرية ذاك، وما نُسج حوله من قصص، ليس وليد اليوم، بل هو جزء من متن فكري معاصر حاول التصدي لتفسير الكثير من التراث الحضاري لبعض الأمم والشعوب دون سند علمي أو إطار فكري سليم، وهو اتجاه تعود جذوره الى أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما سادت الشكوك في غالبية القيم والأيديولوجيات القائمة، حيث اندلع فوران ثقافيّ انحرف بعضه في اتجاه الخرافات بأنواعها، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، فانتشرت المعتقدات البديلة في مواجهة التفسيرات العلمية والعقلانية للظواهر، وبزغت التفسيرات الأثرية الزائفة التي تزاحم علوم الآثار العلمية، لتقديم معلومات مضللة حول ما تركه القدماء من معالم وشواهد حضارية. عزز من ذلك أيضا ذيوع منتجات القنب (الحشيش) والعقاقير المهلوسة، وهو ما تزامن مع ارتفاع نسب الإبلاغ عن مشاهدة الأطباق الطائرة، وتزايد الإيمان بنظريات المؤامرة الخيالية.
في هذه الأجواء، كانت أكثر الكتب ذيوعا هي تلك التي اشتبكت مع هذه المقولات، خاصة إذا ما جاءت من شخصيات تتمتع بقدر من المصداقية. لذلك، استغل عدد من الصحفيين والكُتَّاب -لعل أشهرهم المصري أنيس منصور- الحالة السائدة وأصدروا كتبهم التي يتناولون فيها خوارق الطبيعة، مثل كتب أنيس منصور “أرواح وأشباح”، و”الذين هبطوا من السماء”، و”الذين عادوا إلى السماء”، و”لعنة الفراعنة”. لم تكن أعمال منصور إلا ترسا صغيرا في ماكينة كبيرة شملت كل العالم وأعطت دفعة لتلك النظريات المزعومة، كما اقتاتت على الفرضيات مثل تلك التي تقول بوجود “الكائنات الفضائية القديمة”. روجت هذه النظرية إلى أن أبواب السماء قد انفتحت قديما لإقامة تواصل بشري مع كائنات فضائية. عزز من قوة هذه النظرية في الستينيات أيضا اتساع خيال البشر مع نجاحهم في الوصول إلى الفضاء والخطو على القمر قبل نهاية العقد، حينها انتعشت آمال كثير من البشر في لقاء قريب مع كائنات علوية أكثر رُقيا.
إنجيل الستينيات: الكتاب الذي باع نصف مليار نسخة
هنا وجد “إريك فون دانكن”، الكاتب السويسري، ضالّته ونشر كتابه “عربات الآلهة” مع عنوان جانبي مثير جدا “هل كان الخالق رائد فضاء؟”. صدر الكتاب سنة 1968، وباع خلال عشر سنوات قرابة نصف مليار نسخة، وقيل إنه “الكتاب الذي غيّر قراءة التاريخ”، وفيه يوضح دانكن أن بعض المنجزات البشرية الهندسية عبر التاريخ لا يمكن أن تكون قد حدثت إلا بمساعدة الكائنات الفضائية. انطلق الرجل بعد ذلك لتفسير كل الحكايات الميثولوجية والدينية الخارقة (المعجزات) على أنها كانت اتصالا مع كائن فضائي، وهنا نقصد أشياء مثل الوحي والملائكة ورحلات الأنبياء (كالإسراء والمعراج)، ومن ثم تكون دابة البراق التي حملت النبي محمد ﷺ في رحلته سفينة فضائية متقدمة، بحسب فرضية دانكن.
سرت تلك التفسيرات الزائفة في محاولة لإعطاء تفسير علمي لبعض العقائد الدينية، ستجد مثلا أن كلًّا من “ديفيد أيك” و”زكريا سيتشين” (والأول هو مروج لنظرية مؤامرة أطلق عليها اسم “السحالي”، والثاني روج لنهاية الأرض عبر قدوم كوكب ليصطدم بها) يعتبران أن الأنبياء أو الملائكة هم بالأساس كائنات فضائية جاءت للأرض في زيارات لنقل تعاليم حضارتها الأم والتكنولوجيا الخاصة بها. يشيع هذا الخلط بالأساس في الديانات الزائفة التي تحاول استخدام لغة العلم لتفسير أمور لا علاقة لها بالعلم.
لكن مع تعذُّر اللقاء المرتقب بالكائنات الفضائية الفائقة، وجدت الخرافة طريقها خلال العقود اللاحقة وإلى اليوم نحو ما يُعرف بالحضارة المفقودة. تطورت فكرة الكائنات الفضائية القديمة، ولم تعد فكرة بُناة المنجزات القديمة مرتبطة بالذين هبطوا من السماء، لتصبح مصنوعة بأيدي بني جلدتنا من القدماء الذين غابوا في المجهول. يزعم منظرو هذه الفكرة أن الحضارة البشرية قبل أكثر من 10 آلاف عام كانت أكثر تقدما تقنيا وعلميا من حاضرنا الآن، ثم حصلت كارثة أرجعتها للخلف. لكن هذه الفكرة تتكون من نظريات متشابكة، نحتاج إلى تحليلها كي نصل إلى أقرب نتيجة لحقيقة ما يسمى بعلم الآثار الزائفة.
علم الآثار الزائف: المعرفة في خدمة الإثارة
نحن الآن في أرض خلاء، حيث حطَّت طائرات تحمل مؤنا وطعاما لجنود كانوا يحاربون في مجاهل إحدى الصحاري، كان يحيط بمواضع هبوط تلك الطائرات التي كانت داخل قواعد عسكرية مجموعة من القبائل البدائية التي كانت تراقب الوضع، وتصورت أن تلك الحمولات التي أفرغتها الطائرات هي هدايا من السماء ستُعطى لهم لو فعلوا الشيء نفسه، فقاموا بمحاكاة ما يحدث، فشرعوا في بناء طرقات تشبه طرقات المطارات، وصنعوا نماذج بدائية صخرية أو خشبية للأعلام وأجهزة الاستقبال والهوائيات والمداخل والمخارج الخاصة بالمطارات، ثم جلسوا جانبا وانتظروا هبوط الطائرات المحمّلة بالخير، لكنها طبعا لم تهبط.
هذه الصورة المتخيَّلة التي حاول بها العالِم الفيزيائي -الحاصل على جائزة نوبل- ريتشارد فاينمان أن يفسر بها الكيفية التي يعمل من خلالها رواد العلوم الزائفة، فهم يقلدون الطريقة العلمية من حيث الشكل، فيستخدمون أسلوبا يشبه الأسلوب العلمي في الكتابة والحديث، ويضعون خطوات متتالية مبنية على بعضها بعضا، ويرتبون بياناتهم بطريقة تُشبه طريقة العلماء، ويُقسِّمون كتبهم وكأنها نتائج علمية، لكن الحقيقة هي أنهم يقومون بمحاكاة العلم من حيث الصورة، لكن التدقيق في المضامين سيقودك لاكتشاف الكثير من الثغرات. فهم يستندون على الانتقاء، ويقدمون المزايا والدلائل التي تؤكد وجهات نظرهم على تلك التي تدحرها، ويعظِّمون من شأن الغموض، بينما يتجاهلون مع كل ذلك إجماع العلماء والمتخصصين في المجال، فيقفزون من المقدمات إلى النتائج دون فاصلة معتبرة، والأهم من ذلك أنهم يجهلون – في بعض الحالات- أسس ما يدرسونه أصلا.
مثلا في كتابه “التكنولوجيا المفقودة في مصر القديمة”، يقول الكاتب والمهندس البريطاني كريستوفر دان إنه عندما زار مصر عام 1986 وشاهد تماثيل المعابد، وخاصة تمثال رمسيس الثاني، لاحظ دقة غير عادية في النحت، وتماثلا غير طبيعي يشير إلى أن من المستحيل أن تكون قد بُنيت بالأساليب المعروفة لنا للنحت، لكنه فيما بعد صرَّح في أحد الحوارات الصحفية أنه لم يستخدم أدوات دقيقة لفحص تلك الدقة الشديدة، بل استخدم عينيه ويديه وكاميرا فوتوغرافية، مما يدلل على الخفة في التفكير والتسرع في إعلان النتائج.
على الوتيرة نفسها رأى كريستوفر ورفاقه كذلك بأن مقبرة السيرابيوم (مكان دفن مصري قديم للثيران المقدسة) في منطقة سقارة تحوي توابيت متماثلة الأبعاد طولا وعرضا، وكأنها خرجت من مصنع واحد وفق قياسات آلية استخدمت الليزر لنحتها، مما يعني أنها لم تُصنع على يد نحات، ورأى كذلك أنها كانت من الضخامة والثقل بحيث يستحيل رفعها بالأدوات العادية.
والحقيقة فإن العالم أوغست مارييت عندما دخل إلى هذه المقبرة عام 1850 وجد آثارا لكرات خشبية على أرضية المقبرة مع قضبان مزدوجة وُضعت عليها، مما يؤكد أن التوابيت دُحرجت عليها، كذلك وجد رافعتين خشبيتين أفقيتين، كل واحدة منهما تعمل بثمانية أجزاء للرفع، وهي رافعات ساعدت في شد التوابيت التي وُضعت بها الثيران بحبال طويلة لكي تصل إلى مكانها، وقد تعلمنا قبل قليل أن القدماء من كل الحضارات تقريبا امتلكوا القدرة على العمل بالرافعات.
والحقيقة الثابتة علميا أن زوايا وأسطح التوابيت لم تكن متماثلة بتلك الدقة كما زعم البعض، ولكنها نُحتت وفق قياسات ودقة ممتازة في نطاق البشر في ذلك الوقت. وفقا لمتخصص الأنثروبولوجيا الروسي ألكسندر سوكولوف، فإن القياسات الدقيقة للزوايا والحواف كان بها بعض الاختلاف، في الزوايا الداخلية للتابوت تراوحت الزوايا بين 90.8 درجة و91.4 درجة، وفي الخارج تراوحت الزوايا بين 89.1 درجة و90.8 درجة، وبخصوص الأسطح التي من المفترض أن تكون ناعمة وملساء، وجد أن قياساتها تتراوح بين 180.4 درجة و180.6 درجة، فروق طفيفة لكنها بالطبع ممكنة ليدي إنسان، مقارنة بهؤلاء الذين يدّعون أن الفارق صفر.
وإذا كان كريستوفر ورفاقه بحثوا عن تماثل موهوم في قياسات التوابيت، من أجل إثبات فكرة هاوية الأساس، فقد كان هناك من يبحث عن تماثل آخر في السماء بين مواقع النجوم الملتهبة، والأهرام الرابضة في منطقة الجيزة بمصر.
أهرام في الأرض نجوم في السماء
نترك ثيران المصريين المقدسة إلى أشهر نظريات العلوم الزائفة التي تفترض أن الأهرامات الثلاثة مع نهر النيل يعلوهما في السماء ثلاثة نجوم ونهر كوني. يُطلق على النجوم الثلاثة حزام الجبار، أما النهر الكوني المحاذي للنيل فهو سحابة دخانية تُمثِّل أذرع مجرة درب التبانة، وهي الفلك الأعظم الذي نعيش فيه وتوجد فيها الأرض والمجموعة الشمسية. إذن ثلاثة أهرامات ونهر على الأرض، وثلاثة نجوم ونهر دخاني في السماء، فما الذي يترتب على ذلك؟
يترتب على ذلك بالنسبة لصاحب هذا الاكتشاف، وهو روبرت بوفال، المهندس والمؤلف والمحاضر البلجيكي، أن عمر الأهرامات ليس 4500 عام كما اعتقد علماء الآثار، بل أكثر من 10 آلاف عام، حيث إن في تلك الفترة السحيقة، كانت النجوم الثلاثة المتجاورة في السماء تتفق بدقة شديدة مع مواقع أهرامات الجيزة الثلاثة في منطقة الجيزة بمصر، ومع امتداد الزمن، ولعوامل كونية، انكسر هذا التوافق بين أهرام الأرض ونجوم السماء. وإذا كان العمر المسجل للحضارة الفرعونية هو خمسة آلاف عام، فإن قبل 10 آلاف عام -وهو عمر الأهرام طبقا لتلك النظرية- كانت توجد أمة أرقى من المصريين تمتلك أدوات رصد كونية متقدمة، وأسبابا هندسية عالية، لتقرر عقد هذه المحاذاة السماوية الأرضية الخاطفة للألباب.
أما الحقيقة المعروفة، فهي أن المصريين عرفوا هذه النجوم الثلاثة بالفعل، وفي البرديات حضر ذكرها، ورسمت معالمها على جدران المعابد، كذلك دقوا على الحوائط وصفا للدور الذي لعبته في حياتهم -تذكَّر مفتتح المقال وعمل المهندس سننموت في مقبرة الملكة حتشبسوت-، ولم يكن من تلك الكتابات نقش يدل على نظرية المهندس بوفال التطابقية بين أهرام الأرض ونجوم السماء، بل كانت النجوم الظاهرة على جدران المصريين القديمة تُمثِّل آلهتهم، وأرواحهم المجسدة سماويا، وأن نجوم الجبار الثلاثة التي قدَّرها المصريون تُمثِّل معبودهم “الملك أوزوريس”.
يعني ذلك أنه لا يوجد دليل مادي نقشي واضح لإثبات وجود علاقة متعمدة بين الأهرامات وحزام الجبار، فلا توجد نصوص ولا فكرة واضحة بين مجمل الأهرامات المصرية على الأرض، وهي أكثر من مئة، وبين ما يقترحه مروِّجو الحضارة المفقودة.
وحتى لو سلَّمنا جدلا حدوث هذا التطابق، فإن ذلك لا يمكن أن يقع إلا في حال أن نقلب صورة أحدهما لكي تتوافق مع الأخرى، وهذا ما فعله بالضبط بوفال في كتابه “لغز الجبار”، فقد عكس اتجاه إحداهما ليظهر التوافق المزعوم، حيث تحول الاتجاه الشمالي لإحدى الخرائط إلى الاتجاه الجنوبي، تفاديا لظهور الهرم الأوسط والنجمة الوسطى على طرفي نقيض.
والعجيب أن المهندس بوفال ومعه جراهام هانكوك، أحد مؤسسي فكرة الحضارة المفقودة، اعترفا بوجود هذا الفارق، واعتبراه من قبيل التعبير الفني، حيث من حق الفنان، وهو هنا مهندس الأهرام، أن يبحث عن مواضع الاتفاق مع التصميم الذي يبني في ضوئه، وهي النجوم الثلاثة، وكذلك من حقه أن يبحث عن مواضع الاختلاف، فقرر مخالفة وضعية النجوم. وهذا تبرير تلفيقي، لأن النظرية بالأساس مبنية على افتراض دقة شديدة في التشابه، ولو كان القدماء ينوون أن تُبنى الأهرام الثلاثة بشكل يتوافق تماما مع السماء، كان بإمكانهم تجنب تلك الاختلافات، إذ كانت لديهم بالفعل معارف فلكية تسمح بذلك.
ليس هذا هو الفتق الوحيد في “نظرية ارتباط الجبار” التي تفترض أن كوكبة الأسد، وهي مجموعة من النجوم في السماء تشبه في ترتيبها معا صورة أسد، تتوافق وتتطابق مع تمثال أبو الهول الذي يتخذ شكل أسد، لكن ذلك الزعم أشبه بالفأس التي هوت على ما تبقى من النظرية، ففي السماء توجد كوكبة الأسد في الجانب الآخر لنهر المجرة أو السحابة الكونية، بينما يوجد أبو الهول في الجانب نفسه من نهر النيل مع الأهرامات، فما تفسير ذلك؟ بالنسبة إلى بوفال ورفاقه فإن حجّةَ التعبير أو الحس الفني هما السبب، ومرة أخرى يتعارض هذا المنطق مع ادعائهم الأساسي بالدقة الشديدة، بينما أمكن للمصريين أن يقوموا ببناء أبو الهول في الجانب الآخر من النيل، لكن ذلك لم يحدث على أرض الواقع.
لم تفلح نظرية النجوم مع أبو الهول، لنجد أنفسنا قبالة نظرية أخرى تنطلق من أرضية الجيولوجيا، عن ذلك التمثال العظيم الذي يعتقد علماء الآثار أنه بُني في عهد الملك خفرع (2558-2532 قبل الميلاد). ففي التسعينيات من القرن الفائت، قام روبرت شوك، وهو جيولوجي أميركي، بدراسة أبو الهول من ناحية جيولوجية وليست أثرية، وتوصل إلى أن التعاريج التي تسببت بها عمليات التفتت والتحلل الصخري التي تعرض لها جسم أبو الهول ومحيطه لا يمكن أن تحدث إلا عبر تعرض التمثال إلى أمطار شديدة، ما دعاه للقول إنه بُني قبل موعده المفترض بنحو ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف سنة، لأن مناخ تلك المنطقة وقتها كان ممطرا جدا، أي قبل الحضارة الفرعونية، وبالتالي فإن الأمر متصل بالحضارة المفقودة.
لكنّ المروجين لفكرة الحضارة المفقود عادة ما يتناسون نظريات الجيولوجيا الأخرى التي تمتلك قدرة تفسيرية عالية لتحديد سبب ظهور تلك التعرجات دون افتراضات واهية. على سبيل المثال، اقترح “خاريتي لال جاوري”، أستاذ الجيولوجيا بجامعة لويفيل الأميركية، أن التفتت الصخري الذي حدث لأبو الهول ليس في حاجة إلى مطر غزير مستمر، يكفي فقط أن تتكاثر قطرات الندى الصباحية التي تمتص في ثغرات الحجر الجيري ثم تتبخر في الصباح تاركة نوعا من الأملاح الذي يمكنه التسبب في هذا الأثر.
أما جيمس هاريل، الجيولوجي من جامعة توليدو بولاية أوهايو الأميركية، فيُرجع تلك التعرجات إلى امتصاص الرمال التي أحاطت أبو الهول خلال فترة زمنية طويلة لماء المطر الطبيعي، الأمر الذي يُحدِث تفاعلا يُغيِّر شكل الحجر الجيري. وقد دخل متخصصون آخرون مثل الفيزيائي والجيولوجي روبرت شنايكر إلى هذا المعترك، وافترض أن هناك دلائل على أن تلك التعرجات لم تكن بسبب المطر وإنما قصد المصريون القدماء تركها بهذا الشكل أثناء بناء أبو الهول.
ورغم أن الجدل ما زال قائما ما بين الجيولوجيين وغيرهم، فإن هناك إجماعا على أن تقدير عمر أبو الهول هو أمر يخص علم الآثار وليس الجيولوجيا، وما يفعلونه هو طرح أسئلة لفهم الكيفية التي بُني بها هذا التمثال وأثر البيئة عليه.
والأهم في هذا السياق هو التنبيه إلى خطورة انتقاء الدلائل في معرض الإثبات أو النفي، حيث يقوم البعض بإبراز الدلائل التي تؤيد فكرته للجمهور، بينما يهمل تلك الدلائل التي تناقضها، فيبدو للراغب في تحصيل المعرفة أن ثمّة دليلا واحدا صحيحا فقط.
النجوم والأهرام: التاريخ في مواجهة الأسطورة
فيما سبق، فحصنا عددا من النظريات التي تحاول أن تُقدِّم المجهول على حساب المنطق والتاريخ، لتحل الأسطورة والخرافة والأفكار البراقة التي لا تصمد أمام الاختبار العلمي الحقيقي. وسنبدأ في هذا الجزء من التقرير إتاحة البديل العلمي الذي يفسر ظاهرة الأهرام وأبو الهول بعيدا عن الخرافات الجامحة التي تقول إن هناك تكنولوجيا متقدمة قد فسرت ذلك البناء.
أما قضيةُ الفراعنة والنجوم، أو نجوم الجبار تحديدا، فقد ظهرت في الستينيات من القرن الفائت فرضية علمية ناقشها فريق من علماء الآثار تقول إن الفتحات الصغيرة الممتدة من حجرة دفن الملك في الهرم الأكبر إلى خارج الهرم ليست لأغراض التهوية، بل كانت ذات علاقة بنجوم السماء، فإحدى تلك الفتحات تنطلق من موضع الملك في خط مباشر إلى موضع نجم الثعبان الذي مَثَّل “نجم الشمال” في تلك الفترة الزمنية، وكان قدماء المصريين يتصورون أنه موضع نهاية رحلة الملك أثناء سفره بعد الموت، أما الفتحة الأخرى فتنطلق من موضع الملك في خط مباشر بالاتجاه المقابل إلى موضع مجموعة نجوم الجبار، ولأن حزام الجبار مثل المعبود ساح أو أوزوريس (إله مصري قديم) كما أسلفنا، فيُعتقد أنه الشكل الذي ستتجلى فيه إحدى صور الملك في الحياة الأخرى.
إذن، لا يُنكر العلماء وجود علاقة بين نجوم الجبار والأهرامات، بل يقترحون بالفعل ارتباطا ما، لكنْ هناك ملاحظتان نتعلَّمهما في هذا السياق. أولا، هؤلاء علماء؛ لا يُعد إنجازهم التفسيري معتبرا إلا بنشرهم أوراقا بحثية تناقشه، ومراكمة المعرفة حوله، لحين الوصول إلى تأكيدات يُجمِع عليها العلماء، وبالتالي فإن أحدا منهم لا يتحدث بالطريقة التأكيدية نفسها التي يتحدث بها مروِّجو الحضارة المفقودة، الذين عادة ما يتجاهلون نطاق البحث العلمي ويخرجون مباشرة إلى المجال العام، سواء عبر نشر الكتب، وهو عمل شائع جدا في هذا النطاق، أو نشر وثائقيات أو حتى مقاطع فيديو على يوتيوب، دون أي خطوات بحثية معتبرة وجادّة.
ثانيا، ستجد أن العلماء عادة ما يختصون في نقطة بعينها، فهؤلاء عادة ما يعملون في نطاقات دقيقة صغيرة، أما المروجون لنظرية ارتباط الجبار والحضارة المفقودة فيبنون عِلْمَ آثار جديدا كاملا على فرضية واحدة لا تمتلك دلائل واضحة. إن هذا يُعد طبقا للفلسفة الأرسطية من المستحيلات، إذ إنه ترجيح بلا مرجح.
أضف إلى ذلك أن العلماء لا يقومون عادة بالقفز إلى نتائج كبرى من فرضيات بسيطة، حيث لو افترضنا مثلا أن هناك ارتباطا بالفعل بين الأهرامات ونجوم كوكبة الجبار، فإن ذلك لا يعني أن نقفز للقول إن هذه الأهرامات بُنيت قبل أكثر من 10 آلاف سنة. إن العلم هو إدراك الشيء على حقيقته إدراكا جازما، ويمكن الوصول إلى هذه الحقيقة عبر تفسيرات وتوقعات تتوالى منطقيا، ويمكنها الصمود أمام الاختبار والتجربة والتحليل. لذلك فليس من المبالغة القول إن ما يتحدث به دعاة الحضارة المفقودة ليس علما.
بُناة الأهرام.. في البدء كانت المصطبة
يظهر قصور نظريات مثل نظرية الكائنات الفضائية القديمة أو الحضارة المفقودة كذلك في تفسير بناء الأهرامات، حيث قيل إنها من الضخامة بحيث يصعب على البشر العاديين بناؤها دون تقنيات متقدمة، بل حتى لو توفرت لهم كل الإمكانات الهندسية التي نمتلكها حاليا لتعذر رفع أحجارها. يستند هذا الادعاء إلى فكرة تقول إننا لا نعرف أصلا أي شيء عن بناء الأهرامات، حيث يبدو وكأن هذه الأهرامات المصرية الثلاثة قد ظهرت فجأة للوجود من العدم بضربة عصا سحرية.
في الواقع، تشتهر مصر بثلاثة أهرامات، لكنها في الحقيقة تمتلك أكثر من مئة هرم على النيل، ويمكن لعلماء الآثار إذا درسوا الأهرامات السابقة لأهرامات الجيزة أن يرصدوا تطورا واضحا في هندستها مع الزمن، بحيث يتضح أن الهرم الأكبر لم يكن إلا نتيجة لمحاولات سابقة شابها الخطأ مرات والنجاح في أخرى، بداية من هرم ميدوم المنهار، إلى هرم سنفرو المائل، إلى هرم خوفو.
كان بناء الأهرام إذن عملية تطورية معمارية. فقبل مئات السنين من بناء الأهرامات الثلاثة الكبرى، لجأ المصريون القدماء إلى فكرة “المصطبة”، وهي قاعدة التفكير الهرمي، وهي عبارة عن مبنى مبسط مُرتفع عن سطح الأرض، مستطيل الشكل، ذي سطح مستوٍ.
استُخدمت المصاطب قبورا لبعض الملوك في مصر القديمة، ويمكن لك مثلا أن تتأمل مقبرة الملك “شبسسكاف” المعروفة باسم مصطبة فرعون، وكانت مدينة أبيدوس أكثر المدن احتواء لهذه النماذج من المقابر.
لم تكن المصطبة إلا تطورا لكومات التراب التي أُهيلت فوق حُفَر المدفن البدائية، ومنها استطالت الأهرامات فيما بعد لتكون مجموعة من المصاطب فوق بعضها، كلما ارتفعت كانت المساحة أقل، إنها أبسط فكرة هندسية تضمن التوازن مع الشكل الجمالي، هرم “زوسر” المدرج هو مثال على ذلك.
متأخر كل صنعة خيرٌ من مُتقدِّمها
خضع بناء الأهرام لسنن وقواعد العلم، تجربة وتطورا، مع الاحتفاظ بهامش من الخطأ يقتضيه التفكير العلمي، يمكن أيضا أن نلاحظ تلك الأخطاء في هندسة بناء بعض الأهرامات في “هرم سنفرو المائل”، وسُمِّي كذلك لأن بناءه بدأ بزاوية صعود مقدارها 58 درجة، لكن بعد بناء نصف الهرم ظهر أن اختيار تلك الزاوية كان خاطئا، فتقرر بناء الجزء العلوي بزاوية 43 درجة.
لاحِظْ أن ذلك الخطأ تسبب في توصُّل مهندسي سنفرو إلى أفكار أفضل لبناء هرم كامل بالتقنية الجديدة في بلدة دهشور بجواره يسمى الهرم الأحمر، وهو ثالث هرم بناه الملك سنفرو، ويقع على بُعد كيلومتر واحد تقريبا شمال هرم سنفرو المائل، بُني بالزاوية نفسها 43 درجة مثل الجزء العلوي من الهرم المائل. مثَّلت الطريقة التي بُنيت بها هذه الأهرامات مسودة لبناء هرم خوفو فيما بعد، مصداقا لما يُروى عن ابن النفيس من أنه “إذا تساوت العقول والهمم، فمتأخر كل صنعة خيرٌ من مُتقدِّمها”.
كشفت أوراق البردي التي عُثر عليها في عام 2013 بوادي الجرف قُرب ساحل البحر الأحمر أن الملك خوفو استخدم فرقا من العمال المهرة للبناء، احتوت كل فرقة منها على 200 عامل تقريبا، يقودها المفتش “ميرير”. وتنقسم الفرق إلى مجموعات، كلٌّ منها يحصل على أمر بتنفيذ مهمة محددة، مثل نقل الأحجار الجيرية بالقوارب على طول نهر النيل لمسافة 18 كيلومترا من حلوان إلى الجيزة (محل بناء الهرم الأكبر)، وعند وصول قطع الأحجار للهرم فإن الزلاجات والبكرات والرافعات تسحب الصخور على جسر مائل.
٢٠ عاما و١٠٠ ألف عامل.. تلك هي المسألة
إضافة إلى مسار الفكر التطوري المعماري الذي خضعت له عملية تطور وإنشاء الأهرام، فإنه وفقا للمؤرخ اليوناني القديم هيرودوت، استغرق بناء الهرم الأكبر 20 عاما، وتطلب 100 ألف عامل. ولعل هذه هي المسألة الفارقة، فقد امتلك المصريون القدماء شيئا لا نمتلك منه الآن الكثير: وهو الوقت والكثافة العمالية الماهرة، الأمر الذي يسمح ببناء هرم بهذه الضخامة والتعقيد. وجد علماء الآثار أيضا أدلة على أن هناك قوة عاملة عاشت في موقع البناء لسنوات في مدينة خاصة بهم، واقترحت الأبحاث في هذا النطاق أن ما لا يقل عن 20 ألف عامل، مع موظفي الدعم من الخبازين والأطباء والكهنة وما إلى ذلك، سيكونون كافين جدا لهذه المهمة بشكل طبيعي، دون الحاجة إلى تقنية متقدمة أو حضارة مفقودة.
لا تزال الأدوات التي استُخدمت في بناء الأهرامات موجودة في المتاحف المصرية، ومن جهة أخرى فإن الحجر المستخدم في بناء الأهرام (الحجر الجيري) يسهل قطعه ونحته بدون حاجة إلى تقنيات متقدمة، وحاليا نجد بعض مقاطع الفيديو على الإنترنت ذات مشاهدات عالية تُبيِّن كيف يمكن لرجل واحد مع مجموعة من الأزاميل وشاكوش كبير أن يقسم صخرة أطول منه مرتين وتزن عشرات الأطنان إلى نصفين. أضف إلى ذلك الاعتماد على قواعد فيزيائية بسيطة كانت معروفة للقدماء، كما هي لنا الآن، عن الاحتكاك والعزم، وكيف أن محورا أو نقطة ارتكاز مناسبة يمكن استخدامها لمضاعفة القوة الميكانيكية التي يمكن تطبيقها على جسم آخر.
هذا عن التكسير وفلق الحجارة الضخمة، فماذا عن الروافع؟
هنا نجد أن أقدم دليل على وجود الروافع إلى الشرق الأدنى القديم كان نحو 5000 قبل الميلاد. وفي مصر القديمة، تشير بعض الدلائل البحثية إلى استخدامها نحو 4400 قبل الميلاد، حيث وظَّف العمال الروافع لتحريك ورفع المسلات التي يزيد وزنها على 100 طن. وربما لن تُصدِّق أن أرشميدس قبل أكثر من 2200 سنة كتب: “أعطني رافعة طويلة كفاية ونقطة للارتكاز؛ وسأحرك كوكب الأرض”. لم يكن أرشميدس يعني بالطبع أنه يريد أن يحمل الأرض، بل كان يمد الخطوط على استقامتها لتبيان الأثر الجوهري لفكرة تقول إن طول الرافعة يُمكِّنك من حمل أي شيء مهما كان ثقيلا. وكذلك الرياضيات، فهذه المعارف تداولها الناس من قديم الزمن، وعرف أرشميدس الروافع، لكنه كان يحلم بامتلاك واحدة ضخمة كفاية لتُمكِّنه من رفع الأرض.
وعلى ذكر الهندسة وأرشميدس، لعلك لو تأملت قليلا لوجدت أنه، رياضيا، يمكن تبرير الكثير مما يُطرح بوصفه “غرائب” أو “أعاجيب” بناء الأهرامات، وفق أدوات وتقنيات ابنة وقتها. مثلا، يمكن بسهولة ضبط اتجاه الهرم ناحية الشمال بدقة لو كنت تعرف أبسط المعلومات الأساسية عن حركة نجوم السماء. يمكن كذلك أن تقوم ببناء زوايا قائمة دقيقة إذا امتلكت معرفة رياضية بسيطة عن طبيعة المثلثات، والواقع أن قدماء المصريين -والحضارات التي كانت موجودة في تلك الفترة عموما- امتلكت قدرا مناسبا من تلك المعارف.
تأمل مثلا بردية رايند الرياضية، وهي لا تزال محفوظة إلى الآن في المتحف البريطاني في لندن، مع الكثير من الآثار المصرية، لدرجة أنك لو دخلت إليه لظننت أنك في المتحف المصري. تاريخ البردية يرجع إلى سنة 1550 قبل الميلاد، وهي أحد أهم الأمثلة على المستوى المتقدم الذي وصلت إليه الرياضيات في مصر القديمة، وستجد فيها صورا من جمع الكسور مثل 2 على 3 تساوي 1 على 2 زائد واحد على 6، إلخ، ونماذج لحساب حجم مخازن الحبوب الأسطوانية والمستطيلة، ومساحات قطع الأراضي.
شيء ما يبقى خفيا
لا يدّعي البحث العلمي وصوله إلى كل المعارف عن بناء الأهرامات. يعرف كبار المتخصصين أنه ما زال هناك بعض الغموض، لكن “الغموض” لا يعني أبدا “حضارة متقدمة قديمة مفقودة” أو “كائنات فضائية”، بل يعني أن ثمة نقصا في المعرفة، يجب أن نثق أنها ستطوق بمثابرة البحث العلمي. مؤخرا في عام 2014، أظهرت تجربة قامت بها مجموعة متعددة الجنسيات من علماء الفيزياء بقيادة البروفيسور “دانييل بون” من جامعة أمستردام، نُشرت في دراسة بالدورية المرموقة “فيزيكال ريفيو ليترز”، أظهرت أن الاحتكاك الناتج عن الانزلاق على الرمال يتقلص إلى حدٍّ كبير بإضافة بعض -ولكن ليس الكثير- من الماء، وأن تلك الطريقة تساعد في سحب الأشياء على سطح الرمال. استعان الباحثون بمشهد جداري من مقبرة جيحوتي حتب الذي عاش عام 1900 قبل الميلاد. في مشهد نقل التمثال العملاق يظهر أن أحد العمال يقوم بصب الماء في مسار الزلاجة، ويعتقد أنه بوضع كمية مناسبة من الماء يمكن للاحتكاك أن ينخفض بنسبة 50%.
الخروج للمجال العام: تجاهل النشر في المجلات العلمية الرصينة والخروج مباشرة للجمهور العام بكتب أو حلقات أو وثائقيات أو برامج لعرض نتائج كشف الجديد.الانتقاء: إهمال أو التقليل من شأن الدلائل التي تناقض الفرضية، وجمع القصاصات من كل مكان لخلق قصة بسيطة باهرة يمكن للجمهور تصديقها. إساءة تفسير الغموض: على أنه شيء سحري، وليس مجرد جهل بآليات عمل الأشياء، فيكون الغموض مرادفا لحضارة متقدمة، أو مفقودة، أو كائنات فضائية.القفز في النتائج: التوصل إلى فكرة ما ثم القفز منها إلى نظرية كبرى بدون وجود خطوات أصغر ما بينهما.اقتطاع من السياق: إهمال السياق التاريخي والعلمي للخروج بنظرية جديدة مثيرة بلا دليل.تعديل طفيف أو كبير في النتائج: بمعنى أوضح، تزوير النتائج ولَيّ عنقها لتؤكد ادعاء هذا الشخص.اللجوء إلى نظرية المؤامرة: وصف العلم السائد بأنه جزء من مؤامرة للتغطية على نتائج عظيمة هو فقط مَن يعرف سرها.الدليل هو أنه لا يوجد دليل: تسأل أحدهم: “أين الدليل؟”، فيجيب بأن كارثة مَحَته، أو أن هناك جماعة سرية تُخفيه. الجهل بالعلم: الجهل بأسس المادة العلمية، فيخطئون في تفسير الدلائل.
مرة أخرى يمكن أن تلاحظ الفارق بين ادعاء يظهر في وثائقي أو حلقة يوتيوب أو كتاب، وادعاء بحثي، فالأخير محسوب بدقة، محدد في منطقة بعينها ولا يهدم كل علم الآثار الحالي على افتراض غير مؤكد، أضف إلى ذلك أن لغة البحث العلمي احتمالية، ويحتاج العلماء إلى مراكمة المعرفة للوصول إلى غلبة الظن أو حتى اليقين.
اتبع الزيف، تجد العنصرية!
بعد كل ذلك السرد نصل إلى محطة النهاية، لتسأل أستاذة الأنثروبولوجيا من جامعة كولورادو سارة كورنيك: هل سمعت من قبل أيًّا من منظري هذه الأفكار الخرافية يقول إن الكولوسيوم في العاصمة الإيطالية روما بنته التكنولوجيا المتقدمة المستقاة من أي مصدر غير أهل البلد الرومان أنفسهم؟ أو إن اليونان ليسوا مَن بنى معبد البارثينون ولكن أحدهم قد ساعدهم أو أعطاهم المعلومات أو علَّمهم؟ لا، في الواقع سيقولون إن هذه الكيانات تحديدا بُنيت على يدي أهل البلد، وذلك لأن مروجي علم الآثار الزائف عادة ما يكونون من المتطرفين ناحية “تفوق العرق الأبيض”، بمعنى أن نظرية الكائنات الفضائية القديمة أو غيرها من مفردات علم الآثار الزائف تنطوي على ادعاء عنصري يقول إن سكان أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا أغبياء أو حمقى أو كانوا بدائيين كفاية بحيث لا يمكن لهم أن يُشيّدوا مثل هذه المباني العظيمة أو يمتلكوا المعرفة الكافية لبناء حضارات عريقة على أية حال، التي تُعد مركز انطلاق الحضارة البشرية جمعاء، بل ساعدتهم الكائنات الفضائية، أو الأنبياء، أو ساعدهم الله مباشرة، بحسب ادعاءات بعضهم.
هذه ليست أول مرة بالمناسبة، بعد خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى في عام 1918، بدأ البحث عن تاريخ ما قبل التاريخ الآري لألمانيا القديمة، ودفعت المنظمات النازية مثل “أمت روزنبرغ” و”أهنيربي” (وهتلر نفسه فيما بعد) الأموال للبحث في عصور ما قبل التاريخ الألماني، تمكَّن النازيون من إضافة علم الآثار الزائف إلى حملات الدعاية المكثفة للشعب الألماني، وتقديم ألمانيا على أنها بدايات الحضارة البشرية.
في دراسة عن الأمر، يقول جاريت فاجان وكينيث فيدر، من جامعة بنسلفانيا الأميركية، إن منظري علم الآثار الزائف الذين يقدمون تاريخا بديلا يقدم إنجازات الحضارات القديمة على أنها ليست إنجازاتهم هم في الحقيقة -وهنا نقتبس بالنص- “مفرطو القومية والعنصرية والكراهية”. أما عالم الآثار الأميركي جون هوبس، فكتب في مجلة جمعية علم الآثار الأميركية قائلا: “يروج علم الآثار الزائف بنشاط للأساطير التي تُستخدَم روتينيا في خدمة التفوق الأبيض، والقومية العنصرية، والاستعمار، ونزع الملكية، واضطهاد الشعوب الأصلية”، لاحِظْ أننا هنا نركز على المشكلات المتعلقة بالآثار المصرية، كونها النموذج الأكثر شهرة عربيا وعالميا، لكن علم الآثار الزائف ينطلق لكل آثار العالم القديم في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية والشمالية.
علم الآثار الحقيقي، ويا للأسف، مُمل، ولا يُقبِل الناس على القراءة عنه لأنه ببساطة لا يشبه أفلام “إنديانا جونز”، لذلك ينتشر علم الآثار الزائف حاليا كما انتشر قبل عقود، لدرجة جعلت إيلون ماسك نفسه يقول في إحدى التغريدات قبل عامين: “من الواضح أن الكائنات الفضائية بنت الأهرامات!”، في الواقع فإن 57% من الأمريكيين بحسب أحد الإحصاءات يؤمن بفرضيات مثل الكائنات الفضائية القديمة وما نبع منها من فرضيات. يريد الناس نهاية للقصة، مكسبا يحصلون عليه، كشفا كبيرا مبهجا، لكن كما لاحظت فيما عرضته من دراسات، فإن أقصى مفاجأة قد حققها رجال الزلاجات. وهذا هو العلم، دقيق وبطيء وممل، لكنه قادر في النهاية على كشف الحقائق.
لا يُنكر علماء الآثار أن تكون هناك حضارة مفقودة، بالعكس، فقد تغيرت تصوراتهم عن الماضي السحيق أكثر من مرة مع مكتشفات جديدة، وبعد أن كانوا يوما ما يتصورون أن البشر قبل عصر الحضارة كانوا ضعيفي الإنتاج وأكثر اهتماما بلقمة العيش، بِتنا الآن نعرف أنهم كانت لهم ثقافة وفن، بل عرفوا صورا من الرياضيات والفكر، ويجري ذلك على الكثير من العلوم التي تدرس العوالم القديمة من الأنثروبولوجيا إلى البيولوجيا، لكن في النهاية يجب أن يكون هناك دليل متراكم، يقف بمواجهة النظرية السائدة التي يُجمع عليها العلماء ليُغيّرها، لكن علم الآثار الزائف ليس إلا مقتطفات من هنا وهناك، عادة تُنشر في كتب أو حلقات فيدية أو أفلام وثائقية وليس مجلات بحثية.
علم الآثار الزائف ضخم، ومنتشر في كل مكان وكل حضارة، ادعاءاته كثيفة بحيث يمكن أن نملأ كتبا عدة لتفنيدها، لكن غرضنا كان ضرب عدة أمثلة فقط، تتعلق بالحضارة المصرية القديمة كونها الأكثر انتشارا عربيا وعالميا، لتبيان آليات التفكير المشوهة التي ينتهجها هؤلاء في الوصول إلى نتائجهم.