هذه القصة، من الكتابات التي توصف بقصص “الإرادة” و”الفعل”، فإذا كان هناك كتب أو قصص غيرت قانونا أو ألغت عرفا متبعا، أو كرَّست وضعا جديدا، فمن حق هذه القصة أن توصف بأنها قصة أنشأت دولة.
وصدرت ترجمة “رحلة إلى أرض الميعاد 2040” لسعيد العكش وبدوي محمد ماضي عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، وتروي قصة بدأت بشهر عسل متخيل، وانتهت بسرقة وطن ومحاولة إبادة سكانه الفعليين.
الرواية التي اعتبرها بعض نقاد الأدب العبري أولَ يوتوبيا في الأدب العبري الحديث، حاولت بلورة الدولة العبرية المرتقبة وفقا لليوتوبيا المثالية التي يصور كاتبها مجتمعا فاضلا، إلا أنها في الحقيقة خطة استعمارية على نطاق واسع، لكونها مخططا ودليلا للعمل الصهيوني، مثلها في ذلك مثل كتاب “الدولة اليهودية” لثيودور هرتزل.
ورغم عدم ذيوع وشهرة هذا الكتاب بين القراء العرب، فإنه يعد من أخطر الكتب والقصص التي دعت لبناء الدولة اليهودية، ويحتفي به الإسرائيليون كل عام كلما حلت الذكرى السنوية لقيام دولتهم، لما تعتبره دليلا عمليا، آمنت الحركة الصهيونية بمضمونه، وسارت على خطى أفكاره، وهو ما ظهر بالفعل في كتاب الدولة اليهودية عام 1896م الأب الروحي للدولة تيودور هرتزل حتى تم بناء الدولة اليهودية.
والكتاب يذكرنا بعملية نهب، تعد أكبر عمليات النهب الاستعمارية في التاريخ، وهي عملية انتزاع فلسطين من أهلها على يد الصهيونية العالمية، بدعم ومباركة ومساندة من القوى الاستعمارية المعاصرة، والتي تمثلت في النهاية في إقامة دولة إسرائيل.
والهدف من ترجمة الكتاب من العبرية كما يقول الناشر “هو التعريف بالمخططات الصهيونية، وأسباب نجاحها في تحقيق أهدافها، ولجوء روادها إلى التفكير المنظم والتخطيط الواعي، واستماتتهم من أجل تحويل الأفكار إلى واقع عملي.
والمؤلف إلحانان ليب ليفينسكي ولد في روسيا لأسرة يهودية متدينة، لأب حاخام ألحقه بالتعليم الديني، فأجاد اللغة العبرية، وتنقل بين عدد كبير من المدن الروسية وعمل مدرسا للغة العبرية وصحفيا لفترة، وعلى أثر اغتيال قيصر روسيا سنة 1881 التي شارك فيها بعض اليهود، طال اليهود الكثير من أعمال القتل والطرد. في هذه الأثناء نشأت حركة الشباب اليهودي الصهيوني فانضم إليها، وفي عام 1882 زار فلسطين، ولم يجد هناك يهودا سوى أعداد قليلة جدا، فلم يمكث بها سوى شهرين فقط، وتعلق بفكرة “العودة إلى صهيون”، وأكمل دراسة اللغة والأدب الروسي بدرجة أهلته لأن يكتب مقالات ساخرة في جريدة روسية، وبدأ أعماله الأدبية في عام 1889م، ولاهتمامه بأمر الاستيطان في فلسطين كتب في 1890 قصته “رحلة إلى إيرتس يسرائيل عام 2040 من الألف الثالث”.
ولإيمان المؤلف إلحانان ليب ليفينسكي (1858 – 1910) بروايته أو رؤيته فقد كتبها في وقت لم يكن اليهود شعبا، بل كانوا جماعات في شتات، وشراذم منبوذة في معظم الدول الأوروبية، وأقليات منطوية على نفسها في معظم الدول والبلدان، فجاءت هذه القصة لتنهي عزلتهم، ولم يكن لهم دولة فحدثتهم القصة عن الدولة المتخيلة، أي أنها مهدت لهم قبول فكرة “الشعب الواحد”، وإمكانية إقامة دولة لهم.
من ناحية أخرى، تُعد هذه القصة هي الأولى من نوعها في الأدب العبري التي تضع مخططا لإقامة الدولة الصهيونية في فلسطين، وكانت مهمة الكاتب الكبرى، العمل على تحفيز اليهود للهجرة إلى فلسطين، لما تمثله الهجرة من أساسيات أركان الحركة الصهيونية.
الدولة الوظيفية
وإذا كانت القصة تمثل دليلا عمليا للحركة الصهيونية، فإنها حددت لها معالم الطريق، وطرحت المشكلات وقدمت الحلول، وكان المؤلف سبّاقا في طرح الفرضيات اللازمة لإقامة الوطن القومي لليهود، حيث ذهب إلى أنه لا بد من حاضنة ومرتكز يدفع ويساند الدولة على طول وجودها، وطرح الكاتب فرضية الاعتماد على أوروبا لدعم قيام الدولة المنتظرة، وهذا ما كان من بريطانيا التي مكنت اليهود من الهجرة إلى فلسطين، ثم منحت اليهود وعدا بإنشاء وطنهم من خلال رئيس حكومتها بلفور، وعندما انحسرت شمس بريطانيا، حلت أميركا مكانها تدعم وتزود وتقف في وجه كل من يهدد وجود الدولة اليهودية بالمنطقة.
والقصة ليست شطحات فكرية أو أفكار متناثرة بقدر ما كانت آلية عمل وخريطة طريق تتوزع عليها الأدوار بشكل واع، ضمن مخطط شامل متتابع، حيث جاء تيودور هرتزل ليؤكد في كتابه “الدولة اليهودية” على إنشاء ما يسمى الشركة اليهودية، ويؤكد أنها سوف تكون تحت حماية إنجلترا، ولا يجد حرجا في أن يذكر بأن الدولة اليهودية ستكون رأس حربة لأوروبا نظير ضمان أوروبا لوجودها.
ولم يتورع هرتزل أن يظهر عنصريته في وصم دول آسيا والشرق الأوسط بالبربرية، كما يذكر ذلك في كتابه “ومن هناك سوف تشكل جزءا من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية”.
وطن متخيل
والقصة من الأعمال القليلة التي ترسم صورة طوباوية لدولة إسرائيل والوطن القومي المتخيل لليهود كما كانت تروج لها الحركة اليهودية منذ أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، فقد تحدث مؤلفها إلحانان ليب ليفينسكي عن هذه الدولة في قصته وكأنها حقيقة واقعة، وهو لم يكتف بعرضه للأسس التي تقوم عليها الدولة من لغة وقوانين وتعليم وجيش وشراء أراضي، ولكنه يذكر تفاصيل صغيرة وكأنه يبني الدولة بيديه لبنة لبنة أو طوبة طوبة.
فقد تطرق لملامح الشخصية العبرية، ونموذج البيت وشكل الأسرة، وأن الحياة الأسرية تتميز بالاستقامة، وأن كثرة المناسبات مجال فخر في دولة إسرائيل، وأنها تعطي الكثير من الاهتمام للاحتفالات والأعياد والأيام السعيدة.
ورسم خريطة الدولة العبرية كما جاءت في التوراة، مع تأكيده على ضرورة امتلاك اليهود للأرض بسندات تثبت أحقيتهم لها، وأن حصولهم على الأرض تم بطرق سلمية بيعا وشراءً، وليس عنوة وسلبا وسرقة وتزويرا، ويعطي الكثير من التفاصيل كان من الممكن أن يترك بحثها للأجهزة الصهيونية المعنية، لكن قناعة هذا الكاتب بالفكرة وحرصه على نجاحها دفعاه إلى البحث في كل التفصيلات الدقيقة.
ويشدد على أهمية التعليم والثقافة، فكل مدينة صغيرة كانت أم كبيرة يوجد بها مجلات وكتب عبرية، ومتضمنة للنسخة الجديدة من الموسوعة العبرية.
وهذا يؤكد على الأهمية التي كرستها المخططات الاستعمارية الصهيونية لحشد جهود المفكرين اليهود وغير اليهود من الأوروبيين، من أجل توجيه الرأي العام اليهودي والأوروبي، نحو تأييد فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد عمد تيودور هرتزل (1860 – 1904) الأب الروحي للحركة الصهيونية والدولة العبرية مع زعماء الحركة إلى السعي على كل الأصعدة الفكرية والثقافية والأدبية والسياسية والعلمية من أجل إقامة دولة صهيونية استعمارية.
توظيف الأدب
لقد أنتجت الصهيونية الأدبية أعمالا قصصية وروائية عبرية تنادي وتدعو بشكل مباشر إلى إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، واستخدمت تقنيات أدبية تساعدها على تفادي النقد والاعتراض من جانب السلطات السياسية صاحبة السلطة في فلسطين، حتى لا تثير غضب أصحاب الأرض العرب وأصحاب السلطة من عثمانيين وإنجليز.
والمثال الواضح على ذلك قصة “رحلة إلى أرض الميعاد 2040” من تأليف إلحانان ليب ليفينسكي، مستخدما التقنية الطوباوية، وتقنية الخيال العلمي، وتعتبر هذه القصة من أبرز الأعمال القصصية العبرية التي دعت إلى استيطان فلسطين، وهي تمثل أولى قصص الخيال العلمي السياسي في الأدب العبري الحديث في نهاية القرن الـ19، وصدرت القصة لأول مرة عام 1892 م.
ولم يكن التوجه الفكري والأدبي منفصلا عن التوجه السياسي والعملي للصهيونية، فقد دعت الصهيونية من خلال الأعمال الأدبية الشعرية والنثرية للأدباء أمثال أحاد هاعام، وميخا يوسف برديتش فسكي، وحاييم نحمان بياليك، وإلحانان ليب ليفنسكي، وتيودور هرتزل وغيرهم من الأدباء؛ إلى الهجرة إلى فلسطين، والتي أطلقت عليها “إيرتس يسرائيل”.
وجاءت الأعمال الشعرية والقصصية والروائية ترسم صورة خيالية طوباوية لأرض فلسطين، الأرض التي تفيض لبنا وعسلا، وأنتج الأدباء العبريين أعمالا قصصية تصف الحالة المزرية لليهودي خارج “أرض إسرائيل”، وترى أن الحل اليهودي لمعاناتهم، هو الهجرة إلى “أرض الآباء”.
رواية العسل المر
والقصة تسير في إطار أدب رحلات خيالية، تسرد رحلة شهر عسل تبدأ في العام 2040 لزوجين يهوديين قادمين من سوريا متجهين إلى ما سمّاه المؤلف “إيرتس يسرائيل”؛ حيث الدولة التي تم بناؤها في فلسطين منذ 150 عاما، أي أن الدولة اليهودية قد تمت إقامتها عام 1890م.
ويصف الكاتب من خلال الرحلة مستخدما ضمير المتكلم، مدن تلك الدولة، بساتينها وحقولها ومزارعها وقراها، بيوتها وشوارعها، جبالها وتلالها وسهولها ووديانها، بحارها وسماءها، إنها صورة للدولة الحديثة المتطورة التي تعتمد على العلم والتكنولوجيا، وتأخذ بهما في كل مجالات الحياة العلمية والصناعية والزراعية والتجارية.
كما يصف الكاتب من خلال سرد البطل الراوي المظاهر الاجتماعية للمجتمع الإسرائيلي المتخيل، والتي ستكون مرجعيته يهودية توراتية ملتزما بأحكام التوراة في حياته اليومية ومعاملاته التجارية والأسرية.
وتتناول القصة سرد مراحل بناء الدولة، بدءا من المستوطنات الأولى ودور الحركات السياسية في بنائها، ومن أبرزها جماعة “أحباء صهيون”، و”الحركة الصهيونية”، التي ينتمي إليها الكاتب نفسه.
كما حاول الكاتب التأكيد على أن القدس عام 2040 ستكون محور العالم برمته كما كانت في العصور السابقة، كما أنها ستكون مركزا روحيا يتجمع حوله اليهود وكل أصحاب الديانات الأخرى، كما يتناول بالوصف الشكل السياسي للدولة وجيشها وتعداده وحتى شكل الحروب التي يخوضها الجيش.
الادعاءات الملفقة
وسبق بناء الدولة الصهيونية التأسيس لعدد من الادعاءات الملفقة، وهذا ما يبدو واضحا في هذه القصة، حيث استخدم ليفينسكي الكثير من تلك الادعاءات الصهيونية المألوفة، مثل: “تجميع الشتات” أو ما يسمى بالعبرية “كيبوتس جالوت ” وهو مصطلح ديني تبنته الصهيونية يشير إلى فكرة عودة كل أعضاء الجماعات اليهودية المنفيين في أنحاء العالم إلى فلسطين وتجميعهم هناك، ومصطلح “اليهود في كل بلدان شتاتهم”، كما استخدم أيضا عبارة “أبناء المنفى” وغيرها، كما أطلق على شعبه اليهودي كلمة “عام” تمييزا لهم عن شعوب الأمم الأخرى غير اليهودية غير اليهودية التي يطلق عليهم في العبرية لفظة “غوييم”.
وأقام المؤلف دولته المتخيلة في فلسطين والتزم فيها بمفاهيم الصهيونية وادعاءاتها، ومن ذلك: الادعاء بامتلاك أرض فلسطين عن طريق البيع والشراء، وهذا ركن أساسي في ادعاءات الحركة الصهيونية، تم التركيز عليه بشدة منذ البداية. وفي المقابل الادعاء بأن الفلسطينيين هم من باعوا أرضهم، ولم يغصبهم أحد أو يعتدي عليهم أو يطردهم من وطنهم.
وكذلك تضمنت الرواية الادعاء بأحقية اليهود في فلسطين فيما يسمى الوطن التاريخي، واعتبار اللغة العبرية هي اللغة القومية لليهود في دولته، وأنها لغة عالمية، والادعاء بتمييز اليهود في الدولة المتخيلة وتفوقهم على سائر شعوب المنطقة، والادعاء بالنقاء العرقي لليهود، وخصوصية اليهود ووحدة الجماعات اليهودية.
وتكتمل الادعاءات التي حملها الكتاب عن الحركة الصهيونية، بادعاء رسالة اليهود الحضارية في فلسطين، والادعاء بيهودية البلدان العربية ومركزية القدس في الدولة المتخيلة، والادعاء بفكرة الجذور الممتدة في التربة الفلسطينية بالدعوة إلى ممارسة الزراعة والارتباط بالأرض، والادعاء بانتشار السلام والمسالمة في الدولة المتخيلة، ورسم حدودها وتسمية مدنها.
وبالدراسة التحليلية للقصة يظهر جليا أنها تدخل في إطار الأدب الذي اصطلح على تسميته بـ “الأدب المجند”، وكانت هذه السمة هي الغالبة على الأدب العبري الحديث قبل عام 1948م، عن طريق الالتزام بالبعد عن إبراز أي نوع من التناقض بين الأيدلوجية الصهيونية وتجربة الفرد في واقع الحياة.