مراكش- تشير الساعة إلى الثانية عصرا في يوم صيفي حار بمدينة مراكش المغربية، يبدو المارة بلباسهم الخفيف كأنهم يمشون ببطء وسط الساحة العتيقة “جامع الفنا”، بعضهم يلوح بـ “نشاشة” (مروحة) تقليدية مصنوعة بسعف النخيل، يدفع بها حر الجو بحركات يدوية متسارعة، في حين يحمل آخرون مروحة كهربائية صغيرة عصرية.
في مدخل سوق البهجة القريب، ينشغل بائع “زعزع” المثلج في تلبية طلبات الزبائن الراغبين في تذوق عصير الفواكه المنعش، والممزوج بالحليب الرائب، مثله مثل بائع عصير البرتقال.
ما إن تدخل في زقاق ضيق (الصابة) بحي “فحل الزفريتي” وتقترب من نافورة، حتى تشعر بهواء رطب ينعش الروح ويخفف من وطأة الحر، وحين تتوغل قليلا في الأسواق، تزداد حركة الناس وينقص شعورهم بالقيظ، فالأسواق مسقوفة، ومشارب الماء البارد منصوبة على امتداد الأزقة والدروب، في حين تسمع أصوات الضحك المنبعثة من دكاكين الحرفيين والتجار.
يقول صانع الأحذية التقليدية حسن العلوي الإسماعيلي في حديثه للجزيرة نت “ألفنا حرارة الصيف وأصبحت جزءا من حياتنا، لا يمنع من أن نقضي بعض الوقت في مدينة ساحلية أو منطقة جبلية، ثم نعود إلى مديتنا الفتانة، نصبر على جوها وتصبر علينا”.
شمس قريبة
“الشمس قريبة والرؤوس مرفوعة”، هي جملة درج أهل مدينة مراكش على تداولها كلما حل فصل الصيف بالمدينة، تعبيرا عن همتهم العالية لمواصلة العمل رغم ارتفاع درجات الحرارة بشكل ملحوظ، مقارنة مع باقي المدن المغربية، مما يضفي على المدينة طابعا فريدا يميزها عن غيرها.
وتصبح عبارة “تقيقت” (الصهد) بداية كل حديث ومنتهاه، سواء في السؤال عن الأحوال، أو في كل مناسبة اجتماعية أو تعامل اقتصادي. تزدهر تجارة القبعات، كما يتفنن الصناع في ابتكار أنواع جديدة.
ويؤكد الباحث في التراث رشيد المازوني أن حرارة الصيف لا تؤثر على روح المدينة، بل على العكس، تتيح الفرصة لسكانها لتعزيز الروابط الأسرية والمجتمعية، وتسهم في نشر روح التضامن والتعاون بينهم.
ويضيف في تصريح للجزيرة نت أن “الصهد” في مراكش يعتبر جزءا لا يتجزأ من هوية المدينة وثقافتها، فقد تعايش أهل مراكش مع هذه الظاهرة الطبيعية لفترات طويلة، وطوروا أنماط عيش تناسبها.
ويقول الصانع حسن “مناخ مراكش جاف وصحي، ولذلك يقبل السياح على زيارة المدينة والاستمتاع بالتجول في الأسواق العتيقة، والمتاحف والقصور التاريخية”.
شهقة وقربة ماء
يدأب حسن الذي أكمل عقده السابع، على ملء قربته كل يوم بالماء البارد في حانوته الصغير بسوق الكماخين، يضعها رهن إشارة المارة والجيران، رغبة في جني بضع حسنات، وتعبيرا عن حسه الإنساني المرهف.
وحين يقارن هذا الصانع بين ماضي مراكش وحاضرها، يطلق من وجهه البشوش شهقة تلقائية، ويحمد الله على نعمة الماء، يطلب بوعي بيئي ظاهر أن يدبر الناس أمره كما يدبرون أموالهم.
كان الناس ينتبهون أكثر إلى الأطفال والرضع والمسنين، وأيضا إلى حيواناتهم الأليفة وطيورهم المغردة، أما اليوم فمكيفات الهواء تصبح حلا يلجأ إليه كل من ليس له طاقة التحمل، يضيف الرجل.
ويذكر حسن أنه في الماضي، وفي عز الصيف، ينقطع الماء عن المنازل، تصير الحياة شبه مستحيلة لولا ما يقوم به “الكراب” (بائع قرب الماء)، الذي يقضي النهار كله، تحت شمس حارقة، يزود المنازل بالماء، بقربة أو قربتين يوزع ماءها بالتساوي على من طلبه، يأتي به من السقايات الموجودة حينها على مداخل الحومات والدروب.
ويضيف “في المساء وبعد يوم عمل متعب، أعد متكأ لي في “أعكمي” (ممر ضيق على مشارف باب المنزل) البارد، أسترجع أحوال الناس في السوق، وأتخيل ما وراء أحاديثهم، ووجوههم الحزينة أو المبتسمة، ينتابني بين الحين والآخر نعاس خفيف أنتبه ألا يصبح نوما ثقيلا يفوت علي وجبة العشاء مع الأولاد”.
ويستطرد مازحا “لو توفرت لي الإمكانيات لصنعت أفلاما تضاهي ما يعرض الآن على شاشات السينما”.
ذكاء معماري
ليس وحدها الممرات الضيقة المكيفة في المدينة القديمة لمراكش من تعبر عن الذكاء المعماري لأهل مدينة مراكش، بل يتعدى الأمر إلى كل هندسة البيوت بتصميمها الفريد واستخدام المواد المحلية البيئية واللغة المعمارية المميزة للثقافة المحلية، وذلك للتعامل مع التحديات المناخية في هذه المنطقة الفريدة، وفق المهندس والخبير المعماري عبد الغني الطيبي.
ويضيف مدير المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية في حديث للجزيرة نت أن استعمال الجدران السميكة من التراب والخشب المحلي في الأسقف والأبواب والشرفات يعزل الحرارة ويمنح البيئة الداخلية راحة مميزة، في حين يضفي الزليج رونقا خاصا، عاكسا الضوء ومحافظا على برودة المباني.
وتنتشر بالمدينة المنازل التقليدية (الرياض)، التي تتميز بفناء داخلي ومساحات مفتوحة، لتوفير الظل والهواء الطلق في الصيف، في حين تستعمل المشربية (النوافذ المغربية) للتهوية والإضاءة، وتمنع دخول الحرارة الزائدة وتحافظ على الخصوصية، كل ذلك لتحقيق توازن بين الجمال والوظيفة.
ويشير الطيبي إلى أن هذا التناغم المعماري لا يكتمل من دون وجود “الماء والخضرة” في الهندسة المعمارية، حيث تشكل النافورة مصدر بهجة للعين ومبعثا لتلطيف الجو، بينما تسهم النباتات في تحسين الجودة البيئية وتوفير تأثيرات معتدلة على المناخ الداخلي.
ليل ماكر
في فصل الصيف، تظهر المدينة الحمراء وجها آخر مع حلول الليل، وجها ساحرا جذابا وصاخبا، كأنها تعوض فتور النهار وسكونه الصامت، كما يعبر المازوني، بكثير من حب المدينة وعشقها.
ما إن تميل الشمس إلى الغروب حتى تنطلق أسر بأكملها صوب الحدائق والمنتزهات المنتشرة في أنحاء المدينة، أو تلك التي تزين الشوارع الكبيرة.
يفترشون الأرض على العشب الأخضر أو مجتمعين على المقاعد الخشبية، يتناول البعض وجبات خفيفة ومشروبات باردة، ويتبادلون الأحاديث والأخبار على ضوء القمر إلى ساعات متأخرة، مما يضفي على جلساتهم مسحة من الجمال.
يقاوم البعض الشعور بحرارة الجو بروح الدعابة والنكتة المتداولة بين أهل المدينة، في حين يجدها آخرون فرصة لإظهار مهاراتهم في “الطقيطيقة” (غناء شعبي)، ذلك الغناء المحلي المميز على إيقاع الأكف والأرجل، والحامل لنغمات عذبة تلامس الروح وتحرك المشاعر.
ويضيف المازوني متذكرا مكانة مراكش الثقافية العالمية “لا يترك البعض زيارة الساحة العتيقة ليلا، هربا من حرارة جدران البيوت العصرية، حيث تمتزج روائح الطعام الشهية بالموسيقى الشعبية التي تملأ الفضاء، وتزيده سحرا وجمالا”.