ما فعلته إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية هو “إرهاب دولة” لا علاقة له بجريان الحرب، وقوانينها وأعرافها ومقتضياتها وتاريخها. فـ”هنية” كان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يتحرك في العلن، ويجلس مع ممثلي الدول للتفاوض، وبينه وبين مفاوضي إسرائيل وسطاء ذهابًا وجيئة.
ليس هنية قائدًا عسكريًا ميدانيًا، حتى تعتبر إسرائيل قتله مباحًا، فكل المتحاربين عبر التاريخ كانوا بقدر ما يقتلون من قادة عسكريين أثناء الحروب، ويتباهون بذلك، يتجنّبون قتل السياسيين؛ لأنهم مدنيون، وقتلهم يلحق العار بالشرف العسكري.
لكن لأن الجيش الإسرائيلي لا يعرف أي تقاليدَ ولا أعرافٍ ولا قوانين، بل لا يلتزم بأي شرف عسكري، فقد قتل رجلَ سياسة، في وقت يعجز فيه، وبعد أكثر من 300 يوم من الحرب، عن مجرد الوصول إلى أماكن كبار قادة المقاومة الميدانيين.
لا يمكن للمرء هنا أن ينسى قول أخت صالح العاروري – القيادي الفلسطيني الذي اغتالته إسرائيل أيضًا قبل شهور – : “كل طفل فلسطيني قائد”. فمن يتابع رجال المقاومة الفلسطينية يرى أنها قادرة دومًا على التعويض، بل يكون اللاحق أجدر غالبًا من السابق.
فالمقاومة لديها قدرة على تعويض القيادة. الجماعات أو التنظيمات أو الفصائل المقاومة تربّي أتباعها في ظل تسلسل قيادي، وتضع في اعتبارها أن رجالها مطاردون، قد يُقتلون أو يُسجنون أو يتم نفيهم واستبعادهم عن الساحة. لذا، عليها أن تجعل مخزنها البشري عامرًا بالبدائل، فإن غاب شخص وترك فراغًا، سرعان ما يتم ملؤُه بشخص آخر، يكون قد تم تجهيزه لهذا اليوم.
وليست التنظيمات ذات الأيديولوجيات السياسية الدينية استثناء من هذه القاعدة، بل هي تمارسها ربما أكثر من غيرها، كما تُنبئنا تجربتها ليس في فلسطين فحسب، إنما أيضًا في كل الدول الإسلامية التي وجدت فيها، وعاشت في خطر، أو انخرطت في تحديات شديدة، بسبب سعيها إلى تحقيق أهدافها.
وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة تزيد التحديات بالطبع أمام مثل هذه التنظيمات أو الفصائل، إذ إنها مستهدفة طوال الوقت، وليست لديها فرصة لالتقاط أنفاسها، ومطلوب منها العمل النضالي المستمر بلا هوادة، وأن تظل غريزة البقاء لديها يقظة على الدوام، فيما تجد صعوبات جمة في التعبئة والتجنيد.
هناك ثلاثة أمور أساسية تتعلق بقدرة المقاومة الفلسطينية على تعويض قياداتها، أو ملء الفراغ الذي يترتب على فقدان بعضهم. أولها؛ أن هذه التنظيمات قد اعتادت الموت غير البيولوجي لقادتها، فهؤلاء لا يضمنون البقاء على قيد الحياة حتى يبلغوا من الكبر عتيًا، إذ يمكن أن تخطفهم يد الموت في أي وقت، حتى لو كانوا خارج الأراضي المحتلة، بفعل يد سلاح الجو الإسرائيلي الطويلة. وقد لا يقتلون لكن يؤخذون إلى غياهب السجون ويمكثون فيها زمنًا طويلًا، منعزلين عن الميدان، في حال هي أشبه بالموت.
إن إسرائيل لم تكفّ عن تعقب القيادات الفلسطينية منذ اغتيال غسان كنفاني في لبنان عام 1972 وحتى قتل العاروري، مرورًا بكثيرين، مثل: الشيخ أحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وأبو علي مصطفى، وحسن سلامة، وعبد العزيز الرنتيسي، بل إنها قتلت ياسر عرفات نفسه بالسم، كما يؤكد كثيرون، لكن الساحة الفلسطينية تمكنت على الفور من التعويض، وترميم الشروخ.
الأمر الثاني؛ هو غزارة التعرض لمهارات اكتساب القيادة لدى حركات المقاومة. فضلًا عن التدريب الذي يتم على هذا، فإن أسلوب حرب العصابات الذي تتبعه المقاومة يجعل الفرد فيها مجهزًا لاتخاذ القرار، أو إصدار الأمر لنفسه في ميدان القتال، وليس مقيدًا، مثل الجندي في الجيش النظامي، بالأوامر التي تأتيه من قيادته المباشرة، والتي تكون بدورها قد تلقتها من قيادة تعلوها.
أما الأمر الثالث؛ فيرتبط بالتركيبة العمرية للقائمين بالعمل المسلح، حيث يجب أن يكونوا جميعًا أو أغلبيتهم الكاسحة من الشباب القادرين على القتال، وتسود فيهم هذه الطبيعة الشبابية، ما يمنحهم فرصًا متواصلة لإفراز العناصر المؤهلة للعب أدوار قيادية.
وكان على حركات المقاومة الفلسطينية أن ترفد حياتها على الدوام بصنفين من القيادات: الأول؛ هو قيادات عسكرية ميدانية تخرج من رحم التدريب الشاق والكتمان الأشد، والآخر؛ هو قيادات سياسية، لها هامش من الخطاب المرن، والحركة الحرة نسبيًا، وهي تتعامل مع الداخل الفلسطيني في تنظيم شؤونه وإدارتها، ومع العالم الخارجي، حيث التمثيل السياسي، وإعلان المواقف، والتفاوض.
توضع صور هذه القيادات على جدار النضال الفلسطيني زمنًا، ويعتاد الناس على وجوهها، لكنهم يستيقظون صباحًا ليجدوها قد اختفت، وهنا يُطرح السؤال: من بوسعه أن يأتي بعد هذا، ويعوض غياب ذلك؟ ولا تمر سوى ساعات حتى يجد المتسائلون وجهًا جديدًا قد خرج إليهم، وأطلّ عليهم، ليملأ عيونهم.
إن المقاومة تدرك أن مسيرتها نحو التحرر طويلة وشاقة، ولذا تتصرف كما تفعل شركات الطيران في رحلاتها، فتضع إلى جانب الطيار مساعدًا له لا يقلّ عنه كفاءة، أو يمتلك القدرة نفسها في أن يصل بالطائرة إلى محطة الوصول إن جرى للطيار الأصلي مكروه. ويصبح هذا الأمر ضرورة أكثر في الرِحلات البعيدة جدًا.
وبالطبع فإن كل المجتمعات السليمة، والدول في حال قوتها، تمتلك قدرة على إنتاج البدائل بمن فيها القيادات الإدارية والسياسية والعسكرية، بل وفي الاقتصاد والثقافة. لكن هذا مع فصائل المقاومة، وفي أي زمان أو مكان، يختلف في مسألتين: الأولى؛ أن القيادة تكون في الغالب مغرمًا وليست مغنمًا، لاسيما بالنسبة للقيادات العسكرية أو الأمنية، التي عليها أن تضع رؤوسها على أكفها طوال الوقت. والثانية؛ أن وتيرة الإحلال والإبدال في القيادات عند المقاومين تكون أسرع.
لا يعني كل هذا أن المقاومة لا تخسر بقتل أو غياب بعض قادتها، لاسيما النبهاء الأذكياء الشجعان منهم، لكن هذا بعض قدرها، الذي تؤمن به، بل يمكن أن يفيدها في كثير من الأحيان، لأن القتل، على بشاعته، يعطي قادتها فرصة ليبرهنوا على أن مصيرهم لا يختلف عن مصير أفراد المجتمعات الحاضنة للمقاومين، وأن دماءهم ليست أزكى من دماء الذين يساندونهم، ويعوّلون عليهم.
أقول في النهاية؛ إن إسرائيل المخذولة والمتوعكة في غزة، تريد أي جرعة من نشوة عابرة، بل إنها تستعيض عن عجزها بالهروب إلى الأمام بشنّ حرب كاملة على لبنان أو باغتيال بعض الشخصيات سواء من حماس أو حزب الله. لكن المقاومة لديها قدرة دائمة على التعويض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.