في كلمة للشّيخة حسينة رئيسة وزراء بنغلاديش المستقيلة أثناء الاحتجاجات ضدها قالت: “إن لم يكن أحفاد المقاتلين من أجل الحرية، فمن الذي سيحصل على مزايا الحصص؟ أحفاد رزكار”. ورزكار قوة شبه عسكرية شكلتها باكستان أثناء حرب الاستقلال ضدها من قبل البنغلاديشيين (البنغاليين)، مارست هذه القوة العنف المفرط والتعذيب ضد البنغاليين، وذلك عامي 1971/1970.
لم تدرك الشيخة حسينة – حين أطلقت هذا التصريح ضد المحتجّين بتشبيههم بهذه الصورة – عواقب ذلك، فكأنهم أعداء الوطن، فأثارت غضبًا عارمًا في البلاد، لم تستطع مثلها مثل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي قال قبل هروبه (الآن فهمتكم)، أن تستوعب المتغيرات على الأرض، وهذه مشكلة العديد من الدول التي تحتكر فيها طبقةٌ السلطة.
فمن يحاربون من أجل الاستقلال يعتبرون البلاد غنيمة حرب، يجري السيطرة عليها، لذا فالظهير السياسي للشيخة حسينة (رابطة عوامي) الذي خاض حرب الاستقلال عن باكستان منذ 47 عامًا تمسّك بالحصول على حصة من الوظائف الحكوميّة بوصفهم من حرّروا البلاد.
في حين يصرّ طلاب الجامعات على إتاحة هذه الوظائف لمن لديه الجدارة والكفاءة، وهذه الحصص حرمت عددًا كبيرًا من النّابغين من حقهم في الوظيفة العامة، من هنا كان تحرّك طلاب جامعة داكا ضد إعادة هذه الحصص مرة أخرى بعد أن ألغيت عام 2018، وبالرغم من أنّ المحكمة العلىا جعلت 93 % من الوظائف يجري تولّيها بالجدارة، فإن عنف الشرطة، ومقتل المتظاهرين، صعّدا من الأحداث التي انتشرت في البلاد.
العالم يتغيّر
بنغلاديش التي شهدت تقدّمًا اقتصاديًا، وتراجعًا في معدلات الفقر الذي قلّ عن 20 % من تعداد السكان بعد أن كان جلّ السكان فقراء، ويضرب بهذا المثل دوليًا، مع ارتفاع نسب ومستوى التعليم، أصبحت بها طبقة متعلمة ووعي بالحقوق مع الانفتاح على العالم عبر شبكة الإنترنت، وبالتّالي امتلكت الأجيال الجديدة وعيًا غير مسبوق تجاه الحقوق وواجبات السّلطة.
هذا، في الوقت الذي مارست فيه الشّيخة حسينة العنف المفرّط ضد المعارضين لها، فاستغلّت ولاء جهاز الشرطة، فلفّقت للدكتور محمد يونس تهمًا بالفساد وحاكمته، وهو رمز بنغلاديش الوطني الذي حصد جائزة نوبل للسلام بعد أن نجح بنك الفقراء الذي أنشأه في انتشال الآلاف من الفقر في البلاد، والذي صار الآن لاعبًا من اللاعبين الأساسيين الذين سيصيغون مستقبل بنغلاديش.
إنّ قطع شبكة الإنترنت من الأسباب التي صعّدت وتيرة الغضب في البلاد أثناء الاحتجاجات، وأكد قلق السلطة منها، وهذا ما دفع الكثيرين للانضمام للاحتجاجات.
التمسك بالسلطة والعنف
إن تمسّك الشيخة حسينة بالسلطة – البالغة من العمر 76 عامًا – والتي تولّت منصب رئيس الوزراء 5 مرات، وسيطرتها على جهاز الشرطة الذي يدين قادته بالولاء لها، جعلها ذلك تتوحّد مع كرسي الحكم، ولا ترى المتغيّرات على الأرض، وبحسب تقرير صحيفة “بروثوم ألو” الذي نقل ما حدث في مقرّ رئاسة الوزراء، استدعت الشيخة حسينة ضباط المؤسسة الأمنية إلى مقرّ إقامتها، وطلبت منهم فرض حظر التجول.
لكن تزايد أعداد المتظاهرين مع زيادة عدد القتلى (زاد العدد على 300 قتيل) وصور المتظاهرين وهم يتسلّقون فوق مركبات الشرطة، كل هذا دفع قائد الشرطة إلى إبلاغها بأن الشرطة لن تتمكن من احتواء الاضطرابات، وباتت الشرطة في بنغلاديش في قلق من نتائج عنفها إذا ما تغير نظام الحكم، حتى إنها هددت بالإضراب بعد هروب الشيخة حسينة بطائرة هليكوبتر عسكرية إلى الهند.
اللحظات الأخيرة
لجأت أطراف مقربة من الشيخة حسينة إلى إقناعها بالاستقالة حتى تهدأ الأوضاع، ومن هؤلاء أختها ريحانة المقربة منها، إلا أنها رفضت، هذا ما استدعى تدخل ابنها سجيب وازد جوي الذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية، ولكونه يراقب الأحداث من الخارج، ويطلع على التقارير الإعلامية الأجنبية، استطاع إقناعها بالاستقالة، فغادرت إلى بانجابهابان المقر الرسمي للرئيس البنغلاديشي محمد شهاب الدين، وقدمت استقالتها قبل أن يقتحم المتظاهرون مقرَّ مجلس الوزراء بلحظات.
الماضي والمستقبل
بنغلاديش منذ استقلالها عام 1971 يقوم النظام الحاكم بها على النظام البرلماني، إلا أن الجيش سيطر على الحكم في البلاد منذ انقلاب عام 1975 من وراء الستار، وينتخب الرئيس من البرلمان، وبالتالي السلطة في يد رئيس الوزراء.
وفي عام 1991 م استعادت البلاد السلطة من الجيش، وبدأت في الصعود الاقتصادي، حتى صارت من أكبر مصدري الملابس الجاهزة في العالم، فضلًا عن عدد من الموارد المختلفة التي عززت من قدرات البلاد.
لكن الواقع على الأرض، مثل: السيطرة على الحكم والجمود وعدم إدراك المتغيرات، وقراءة المعطيات، جعل ذلك الاحتجاجات تبلور حراكًا سياسيًا جديدًا قد تتوارى معه القوى التقليدية في البلاد، مع بروز قيادات صار لها تصورات جديدة، خاصة مع فساد النخبة التي سيطرت على الحكم في ظل الشيخة حسينة، إلى درجة قد تؤدي لفتح ملفات فساد، ربما تقود لمصادرة أموال وثروات البعض.
لكن على الجانب الآخر، فإن القوى القديمة كـ “رابطة عوامي” لن تختفي من المشهد نهائيًا، بل ستظل حاضرة، وحضورها سيعتمد على قدرتها على الصمود، أو تغيير جلدها، وتحديث بنيتها، وهذا ما لا أرجّحه، حيث إن النهر المندفع حاليًا في كافة أقاليم بنغلاديش يفاجئنا يوميًا بقيادات لم تكن ظاهرة ولا موجودة على الساحة.
لذا، سنرى في السنوات الخمس القادمة وجهًا آخر لبنغلاديش غير الذي اعتدناه، فضلًا عن أن النقاش حاليًا في أوساط الطبقات الصاعدة من السياسيين والمثقفين، يرى بنغلاديش بالقرب من نماذج ناجحة سياسيًا واقتصاديًا، فصار الحديث عن ماليزيا، وفيتنام، وكوريا الجنوبية.
إضافة إلى ما لا يدركه البعض ممن هو خارج المجتمع في بنغلاديش، أنّ التقدم المذهل للجارة القوية الهند التي صارت العام الماضي الاقتصاد الخامس عالميًا والتي لديها ديمقراطية سياسية، صار هذا التقدم يثير الغيرة والنقاش في بنغلاديش، كل هذا كان له تأثير على ما حدث، وما سيحدث هناك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.