فلنتفق أولًا أن هذه المفاوضات هي حاجة إسرائيلية.
عقب اغتيال إسماعيل هنية، سارع بنيامين نتنياهو إلى نشر صورة له مع وفد المفاوضات الإسرائيلي، مرفقة بتعليق يؤكد فيه أن المشاورات جارية لمناقشة الصفقة. وتناقلت وسائل الإعلام المقربة منه تصريحات من مصادر تزعم أن اغتيال هنية لن يؤثر سلبًا على المفاوضات المستمرة، بل سيجعلها أسهل بعد إزالة حجر عثرة من طريقها. وحقًا، انطلقت جولة جديدة من المفاوضات، يسعى من خلالها نتنياهو إلى تحقيق ثلاثة أهداف جوهرية:
- أولًا، يتعلق الأمر بعائلات الأسرى الإسرائيليين الذين سرعان ما عادوا للتظاهر بعد ساعات قليلة من نشوة اغتيال هنية، إذ يرغب نتنياهو في منحهم بصيص أمل بقرب إتمام الصفقة، لتجنب تصعيد التوتر الشعبي وتفادي أي انخفاضات في استطلاعات الرأي التي تتأرجح بين الصعود والهبوط، تبعًا لجرعات الدوبامين التي يزود بها نتنياهو قاعدته الشعبية عبر خطاباته الرنانة، كما في الكونغرس الأميركي، واستهداف الضاحية الجنوبية، واغتيال هنية في طهران.
- ثانيًا، تهدئة حالة القلق العام التي أثارتها التوقعات برد حزب الله وإيران، إذ يعيش المجتمع الإسرائيلي في حالة من الهستيريا جراء هذا الترقب. ومن ثم، يأتي المسار التفاوضي الجديد بمثابة مسكن لهذه التوترات، ومحاولة لطمأنة مجتمع الكيان، وإقناعه بأن “ملك إسرائيل” يدرك جيدًا ما يفعله.
- ثالثًا، احتواء تصاعد التوترات الإقليمية، ومنح جبهات المقاومة أملًا زائفًا بإمكانية الوصول إلى نهاية لهذه الحرب، تغنيهم عن اللجوء إلى الرد، وتوسيع جبهات القتال، وهو ما قد يكلفهم كثيرًا. ويعتقد أن منح الوقت اللازم للتفاوض حول إنهاء الحرب أفضل من تفاقمها.
ما بين جولة وأخرى، كما بين الأرض والسماء
لقد شكّل المقترح الأميركي الجديد، والتعنت الإسرائيلي السابق له، انقلابًا على كافة المقترحات السابقة. وقد مثلت هذه الجولة انتكاسة حقيقية إذا ما قورنت بما وافقت عليه المقاومة في الثاني من يوليو/تموز الماضي، وما تحقق من تقدم جوهري في السادس من مايو/أيار، قبيل اجتياح رفح. ويمكن تلخيص أبرز التغييرات التي طرأت بين ما وافقت عليه المقاومة وما وصلت إليه المفاوضات في الجولة الأخيرة بالتالي:
1. محور فيلادلفيا
رفض الاحتلال انسحاب قواته من محور فيلادلفيا، رغم أن هذه النقطة جاءت بطلب وضغط مصري. وقد عرض الاحتلال لاحقًا تخفيض قوام قواته المتواجدة هناك فقط. يخالف نتنياهو في ذلك إرادة قيادة أركان جيشه، التي ترغب في الانسحاب من المحور لأسباب عديدة، منها عدم وجود حاجة عملياتية حقيقية لبقاء القوات فيه، إذا ما قورن ذلك بحجم القوات المنخرطة في القتال.
وفوق ذلك، يُحتمل تعرّض هذه القوات لاستنزاف غير محتمل، بالإضافة إلى عدم نجاح العملية في تحقيق أي نتائج عملياتية كبرى، سوى اكتشاف بعض الأنفاق التجارية القديمة والخارجة عن الخدمة. وقد عبّر عن هذه الرؤية رئيس أركان جيش الاحتلال (هاليفي) بقوله: “إن محور فيلادلفيا يجب ألا يشكل عائقًا أمام تحرير 30 مختطفًا في المرحلة الأولى”.
جاء هذا التصريح بعد إجراء تقييم شامل للوضع في المحور جنوب قطاع غزة، بمشاركة كبار القادة، مثل قائد القيادة الجنوبية اللواء يارون فينكلمان، وقائد الفرقة 162، والمقدم إيتسيك كوهين.
2. العودة إلى القتال مباشرة بعد نهاية المرحلة الأولى
طرح الوفد الإسرائيلي في هذه الجولة وقف إطلاق نار مؤقت في المرحلة الأولى فقط، على أن تناقش مسألة وقف إطلاق النار الدائم في المرحلة الثانية ضمن سقف زمني محدد، وبشكل مشروط. وإذا لم توافق المقاومة على المطالب الإسرائيلية، يعود الجيش للحرب وتنفيذ عملياته العسكرية.
بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، حيث نقلت صحيفة “إسرائيل هيوم” أن أحد الشروط التي وضعها نتنياهو للقبول بالصفقة، يتمثل في وجود تعهد مكتوب من الإدارة الأميركية يسمح بعودة إسرائيل للقتال بعد نهاية المرحلة الأولى من الاتفاق، والمحددة بستة أسابيع. وقد عبّرت المقاومة عن رفضها القاطع لهذا الشرط، مشيرة إلى أنه يتعارض مع مبادئ بايدن، الذي قدّم العرض الأميركي كنهاية دائمة للحرب، وليس مجرد مرحلة مؤقتة.
3. محور نتساريم
بعدما أبدى المحتل موافقته على الانسحاب من محور نتساريم في جولات المفاوضات السابقة، عاد هذه المرة وأعلن رفضه الانسحاب من المحور، وطرح صيغة تتضمن إقامة حاجز تشرف عليه قوات دولية، لتفتيش حركة المواطنين ومراقبة تحركاتهم من الجنوب إلى الشمال، والعكس.
يضع نتنياهو هذا الشرط مخالفًا رؤية قادة جيشه للمحور، الذي حولته المقاومة من منطقة سيطرة عملياتية تمكنه من اجتياح عمق مدينة غزة في 15 دقيقة، إلى نقطة ضعف خطيرة تجبره على التخلص منها سريعًا. حيث رفعت تكلفة بقائه فيها إلى إصابة حوالي 10 جنود يوميًا في فترة من فترات القتال، فقط بقذائف الهاون.
الاحتلال الذي أراد السيطرة على هذا المحور لمنع عودة النازحين، أصبح بين فكّي كماشة بين لواءَي الوسطى وغزة، وبذلك بات يفضل الانسحاب على البقاء. بل ربما بات يمكن تسمية الانسحاب من “ممر الموت” هذا مطلبًا إسرائيليًا أكثر مما هو فلسطيني.
4. الأسرى
وصلت المفاوضات في يوليو/تموز إلى نقطة التقاء مهمة بين الطرفين، تمثلت في التوافق على إفراج المقاومة عن 33 أسيرًا إسرائيليًا (بين أحياء وأموات)، من فئات النساء والأطفال وكبار السن والمجندات.
وتم تحديد أعداد الأسرى الذين على الاحتلال الإفراج عنهم مقابل كل أسير إسرائيلي. إلا أن الوفد الإسرائيلي جاء في مفاوضات الدوحة لينقلب على ما تم الاتفاق عليه، وطرح شروطًا جديدة، تتضمن المطالبة بأن يكون جميع الأسرى الثلاثة والثلاثين أحياء، وأن يتم إبعاد جميع الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم إلى خارج فلسطين. كما وضع فيتو على الإفراج عن 100 أسير من كبار أسرى المقاومة.
5. معبر رفح
رفض المحتل جميع مقترحات الوسطاء فيما يخص معبر رفح. وطالب بوضع قوات أمنية عربية أو دولية لإدارته من الجانب الفلسطيني تحت إشراف مباشر من الكيان، أو إعادة السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة المعبر برقابة إسرائيلية غير محددة الشكل، مباشرة أو غير مباشرة.
هل كانت حماس محقة؟
في ثلاث مراحل فاصلة في زمن المفاوضات، أبدت حماس موافقتها:
- الأولى عندما وافقت على مقترح الوسطاء في السادس من مايو/أيار الماضي، والذي رد عليه الاحتلال باجتياح رفح.
- الثانية عندما أصدرت بيانًا سريعًا وإيجابيًا تجاه خطاب بايدن، الذي أعلن فيه مبادئه لوقف الحرب، والتي تنكر لها الإسرائيلي ولم يتعامل معها بإيجابية.
- الثالثة كانت في الثاني من يوليو/تموز الماضي، حيث وافقت حماس بعد جولة مفاوضات تفصيلية على المقترح الأميركي القطري المصري، متجاوزة جميع الفجوات التي كانت فيه، خاصة المتعلقة بالبندين: الثامن والرابع عشر.
ردت إسرائيل على هذه الإيجابية بعشرات المجازر واغتيال هنية، مما دفع حماس إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها التفاوضية، التي اعتمدت بشكل كبير على المرونة السياسية. حتى أصدرت بيانًا قبل اجتماع الدوحة بأيام، تؤكد فيه أن العملية التفاوضية قد خاضت في جميع التفاصيل، وأن الوقت قد حان للتنفيذ.
يمكن أن يُفهم من رفض حماس للمسار التفاوضي الجديد أنها ترى أن العملية التفاوضية وصلت إلى مرحلة اللاجدوى، وأن استمرارها غير منطقي. فحماس قد وافقت على جميع طلبات الوسطاء السابقة (بما لا يتجاوز الخطوط الحمراء الأربعة)، فلماذا تعود للتفاوض مرة أخرى؟ وتؤكد حماس كذلك أن الوقت قد حان للتنفيذ، ولا حاجة لإعادة التفاوض والنقاش، لأن ذلك يخدم مصلحة نتنياهو فقط، وليس أحدًا سواه.
بعد انتهاء لقاءات الدوحة، ومع الهوة الهائلة الموضحة في البنود أعلاه، يتضح أن رفض حماس للمسار التفاوضي الجديد كان خطوة صحيحة وفي الاتجاه المنطقي، وأنها كانت محقة في ذلك للأسباب التالية:
قناعتها، وقناعة الجميع، أن شروط نتنياهو الجديدة تنسف جهود المفاوضات السابقة، وتمثل انقلابًا على كل إيجابية ومرونة أبدتها حماس. وأن استمرار المفاوضات بشكلها الحالي لا يعني سوى مزيد من الوقت لاستمرار الإبادة، وأن ثمانية أشهر (من ديسمبر حتى أغسطس) هي فترة أكثر من كافية للوصول إلى اتفاق، لو كان نتنياهو صادقًا في مسعاه. وهو كاذب بطبيعة الحال.
اغتيال هنية، والمجزرة التي ارتُكبت في مدرسة “التابعين”، يدلان بشكل قاطع على نوايا نتنياهو، التي تتجه نحو استمرار الحرب وعدم الوصول إلى صفقة مهما تنازلت المقاومة.
تأجيل اجتماع الوسطاء في الدوحة لأسبوع كامل، ثم الخروج ببيان هزيل بعد لقاءات استمرت يومين، ومن ثم تأجيل الجولة الثانية في القاهرة أسبوعًا كاملًا، وعدم طرح هدنة إنسانية تتيح المجال للمسار التفاوضي، كل ذلك كشف عن ضعف الوساطة الأميركية، وعدم قدرتها على الضغط على نتنياهو بالشكل المطلوب. وهذا يشي بعدم قدرتها على الوساطة الفعالة أو ضمان الاتفاق.
تقديم هذه الشروط الجديدة لا يعني سوى أمر واحد فقط، وهو أن إسرائيل تسعى إلى إحداث تغيير جذري في الواقع الأمني والسياسي، بل وحتى العسكري في قطاع غزة. وهذا الأمر يمثل إعادة احتلال القطاع، وتحويله إلى بيئة مشابهة تمامًا لبيئة الضفة الغربية بعد عملية السور الواقي. وهو أمر لا تملك حماس ولا غيرها الموافقة عليه، فلم يمنح الشعب الفلسطيني الحق لأي كان في التفريط بمتر واحد من أرض فلسطين التاريخية.
وصفة اشتعال الإقليم
بعد انتهاء الجولة الأولى، تبين مقدار عبثية المسار المسمى “مفاوضات”، إذ لم تُفضِ هذه الجولة تحديدًا إلى أي تقدم، ولم تكن حتى مراوحة في المكان، بل أفضت إلى تراجع عما تم الاتفاق عليه سابقًا. والحديث الأميركي عن أي تقدم لا يعدو كونه دخانًا بلا نار، وجعجعة بلا طِحن. أدركت حماس صحة قرارها بالمقاطعة، وتأكدت أن الموقف الإسرائيلي ليس مجرد تعنت حول تفاصيل، بل هو خلاف حول نقاط جوهرية لا يمكن تجاوزها. وهذا التعنت، والغطاء الأميركي الممنوح له، هو أسرع وصفة لاشتعال الإقليم واستدامة الصراع.
إن الوقت الذي تمنحه أميركا لإسرائيل في استمرار هذه المفاوضات، ثمنه دماء ومجازر ونزوح ومجاعة لا يمكن السكوت علنها بأي حال من الأحوال. إن حرب غزة، الحرب الأكثر دموية في المائة عام الأخيرة، لا تمثل المفاوضات فيها سوى وسيلة لإدارة الحرب، لا لإنهائها.
الجميع يعرف حجم تأثير الإدارة الأميركية في الملف الإسرائيلي، وأنها لا تملك من هذا الأمر شيئًا، لأن كل أدوات فرض الإرادة تتوقف أمام قوة اللوبي الصهيوني الذي يحمي كيان الاحتلال وله نفوذ واسع في الحياة السياسية الأميركية. لكن تداعيات فشل هذه المفاوضات لن تتوقف عند جبهة غزة فحسب، بل ستشعل المنطقة بأكملها.
وإذا أردنا أن نفهم حجم تأثير التصعيد الإقليمي -إن حدث- فلننظر إلى أثر عمليات جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) على الاقتصاد العالمي، ولنضاعف ذلك إلى مائة ضعف. هذه المنطقة تحتوي على أهم موارد وممرات ومضائق العالم، واشتعالها يعني كسرًا بليغًا لا يمكن جبره للاقتصاد العالمي. الجميع يدرك ذلك، وعلى رأسهم أميركا، التي تعتبر الطرف الأكثر رفضًا للحرب الإقليمية. ومع ذلك، لا تحرك ساكنًا أمام مشاهد الأشلاء، كرمى لعيون إسرائيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.