لُوحظت اختلافات كبيرة بين ردود الفعل الإيرانية فور اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وتلك التي ظهرت بعد مرور أكثر من أسبوعين على اغتياله. عقب الاغتيال، أعلنت قيادات إيرانية، بمن في ذلك المرشد الأعلى آية الله خامنئي، والرئيس مسعود بزشكيان، وقادة الحرس الثوري، أنهم سينتقمون من إسرائيل، التي حمّلوها مسؤولية الاغتيال، سواء على استشهاد هنية أو على انتهاك أمن إيران.
في مدينة قم الإيرانية، رفع العلم الأحمر الذي يرمز إلى الانتقام على قبة مسجد جمكران، الذي يُعتقد أن الإيرانيين بنوه بأمر من الإمام المهدي. كما شاركت وسائل الإعلام الإيرانية ومئات الحسابات المؤيدة لإيران على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا ومقاطع فيديو تشير إلى الانتقام من إسرائيل.
وفي بيان خطّي بعد اغتيال إسماعيل هنية، قال آية الله خامنئي: “النظام الصهيوني المجرم والإرهابي أغضبنا باستشهاد ضيفنا الكريم في بيتنا، لكنه في نفس الوقت قد أعدّ لنفسه عقوبة شديدة”، مما يشير إلى عزم إيران على الرد.
كان الهجوم الصاروخي والطائرات المسيرة الذي شنته إيران على إسرائيل، في 13 أبريل/نيسان 2024، بعد استهداف السفارة الإيرانية في دمشق، غير كافٍ بالنسبة للشعب الإيراني
رسائل إيران الواضحة بشأن نيتها الهجوم على إسرائيل، والرسائل التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى طهران عبر الوسطاء، والتصريحات الثلاثية التي صدرت عن قطر ومصر والولايات المتحدة التي دعت إلى استئناف محادثات وقف إطلاق النار، والتحديات الداخلية التي تواجهها إيران، أدّت إلى تخفيف حدة تصريحات الأخيرة بشأن الهجوم على إسرائيل.
لا شكّ أن قرار الهجوم على إسرائيل ليس قرارًا سهلًا على إيران. كما أن إيران مهتمة بالتداعيات الداخلية للهجوم، أو التخلي عنه أكثر من اهتمامها بالتداعيات الخارجية.
محاولة لإقناع الشعب الإيراني
أمام القيادة الإيرانية خياران: إما الهجوم على إسرائيل، أو تبرير الامتناع عن الهجوم. وبالنسبة للقيادة الإيرانية، فإن شعوب المنطقة والعالم قد تعتبر الهجوم غير كافٍ إذا حدث، كما أنهم سيتّهمون إيران بالجبن إذا لم يتم الهجوم. ولهذا السبب، تهتم القيادة الإيرانية بتقييم الشعب الإيراني للقرار أكثر من تقييم العالم الخارجي.
سياسة الصبر الإستراتيجي التي اتّبعتها إيران بعد مقتل قاسم سليماني في هجوم أميركي بالعراق، واغتيال محسن فخري زاده في طهران، ومقتل العديد من الجنود الإيرانيين في سوريا، واستهداف مقر إيران والجماعات التي تدعمها في سوريا بشكل أسبوعي تقريبًا، أثرت على ثقة الشعب الإيراني في قوة البلاد وفي تصريحات قيادتها.
وقد كان الهجوم الصاروخي والطائرات المسيرة الذي شنته إيران على إسرائيل، في 13 أبريل/نيسان 2024، بعد استهداف السفارة الإيرانية في دمشق، غير كافٍ بالنسبة للشعب الإيراني.
بعد مرور 21 عامًا على غزو الولايات المتحدة للعراق، تزعزعت الثقة في سياسة “الصبر الإستراتيجي” التي اتبعتها إيران أثناء الهجمات. وفي هذا السياق، يخشى الإيرانيون من أن يؤدي القرار المتعلق باغتيال إسماعيل هنية إلى تأثير سلبي على النسيج الاجتماعي الهشّ في البلاد.
خلال محادثاتي مع دبلوماسيين إيرانيين، قالوا: “نحن مهتمون بكيفية تقييم الشعب الإيراني للقرار أكثر من تقييم الخارج”. لذلك، يمكن القول إن التصريحات والمواد الإعلامية التي تنشرها وسائل الإعلام الإيرانية والقيادات حول الهجوم المحتمل على إسرائيل تهدف إلى تهيئة الشعب الإيراني للقرار الذي سيتمّ اتخاذه.
مخاوف من فشل خطة الفترة الانتقالية
منذ عام 2021، يبدو أنّ إيران تتبع سياسة “التحضير لفترة انتقالية” لمواجهة الصعوبات التي ستنشأ بعد وفاة آية الله خامنئي. وكان يعتبر انتخاب إبراهيم رئيسي، رئيسًا للجمهورية في يونيو/حزيران 2021 خطوة مهمة في هذه السياسة. وفي فترة رئاسة رئيسي، شهدت المحافظات، والقيادات العسكرية، والوزارات، والمؤسسات الإستراتيجية تغييرات كبيرة في إطار هذه السياسة.
وتهدف سياسة “التحضير لفترة انتقالية”، التي تنفذ تحت إشراف خامنئي، إلى تقليل الهشاشة والتغلب على الصعوبات المتوقعة بعد وفاته، وتجنب الاضطرابات الاجتماعية المحتملة. بعد الوفاة المفاجئة لإبراهيم رئيسي، يبدو أن القائمة الوزارية التي قدمها الرئيس المنتخب مسعود بزشكيان إلى البرلمان الإيراني تتماشى مع روح سياسة “التحضير لفترة انتقالية”.
بالإضافة إلى الضغط الاجتماعي الذي فرضته الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد، تتبع إيران طريقًا لمواصلة المفاوضات مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وتهدف في النهاية إلى التوصل إلى اتفاق يرفع العقوبات الاقتصادية كجزء من عملية انتقال سليمة وسلسة بعد خامنئي. وعليه، تمر إيران بمرحلة صعبة، تهدف من خلالها إلى نقل مكاسب الثورة الإسلامية عام 1979 لما بعد خامنئي بطريقة صحية وسليمة.
خلال هذه الفترة الحرجة، تواجه إيران قرارًا حاسمًا حول الهجوم على إسرائيل أو الامتناع عن الهجوم. فإيران لا ترغب في أن يؤثر هذا القرار سلبًا على سياسة “التحضير للفترة الانتقالية” التي تتبعها. بناء على ذلك، يخلق هذا الوضع جوًا من عدم اليقين، ويجعل اتخاذ القرار صعبًا. وبالتالي، تحتاج إيران إلى مسار للخروج من هذه العملية دون خسائر، أو بأقلّ خسائر ممكنة.
فرصة محادثات الدوحة
وفي هذا السياق، قدمت محادثات وقف إطلاق النار – التي جرت في الدوحة، والتي بدأت بناء على بيان مشترك بين قطر وأميركا ومصر- لإيران خيارًا ثالثًا؛ بين الهجوم على إسرائيل، ومتابعة سياسة الصبر الإستراتيجي.
من الممكن القول إن إيران، التي تسعى لحماية نفسها من التحديات الأمنية التي قد تنتج عن مهاجمة إسرائيل، وتجنّب خيبة الأمل التي قد تثيرها سياسة “الصبر الإستراتيجي” لدى الشعب الإيراني، قد تتبنى “سياسة التراجع البطولي”. تشير تصريحات آية الله خامنئي والمسؤولين الإيرانيين والخبراء إلى أن إيران قد تعتمد سياسة تُعرف بـ “التراجع البطولي”.
فآية الله خامنئي، الذي أكد أن “إسرائيل ستعاقب” في تصريحاته بعد اغتيال إسماعيل هنية، تطرق إلى “التراجع التكتيكي” في خطابه الأخير. فقد قال خامنئي: “إن هدف العدو من الحرب النفسية في المجال العسكري هو خلق الخوف والتراجع. وفقًا لتفسير القرآن الكريم، فإن التراجع غير التكتيكي في أي مجال، سواء في المجال العسكري أو في المجالات السياسية والدعائية والاقتصادية، يؤدي إلى غضب الله. لكن في بعض الأحيان، يكون التراجع تكتيكيًا، وقد يكون التراجع بهدف تطوير الإستراتيجية. ولا حرج في ذلك”.
وتشير هذه التصريحات إلى أن إيران قد تتبنى سياسة “التراجع البطولي”. إشارة أخرى لهذه السياسة جاءت من البعثة الدائمة لإيران لدى الأمم المتحدة. حيث أكدت البعثة في بيان لها أن “إيران تولي أهمية لكل من الانتقام، وتحقيق وقف إطلاق النار في غزة في نفس الوقت”.
بدوره، قال البروفيسور سيد هادي بورحاني، الخبير الإيراني في الشؤون الإسرائيلية، إن إيران قد تتخلى عن حقها في الانتقام مقابل وقف إطلاق النار في غزة. وأشار إلى أن بعض الأطراف الغربية، وكذلك بعض الأطراف العربية بمن في ذلك حماس نفسها، طلبوا من إيران الامتناع عن القيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل كوسيلة للانتقام لمقتل إسماعيل هنية في طهران، مقابل تحقيق وقف إطلاق النار في غزة.
ويعتبر قول البروفيسور هادي بورحاني- “تجنب إيران الانتقام من إسرائيل مقابل وقف إطلاق النار في غزة سيزيد من مكانتها وشعبيتها في فلسطين وجميع الدول الإسلامية”- دليلًا واضحًا على أن إيران قد تتبنى سياسة التراجع البطولي.
ختامًا، تواجه القيادة الإيرانية قرارًا مهمًا في مرحلة حرجة بالنسبة لمستقبل النظام. وتدرك القيادة صعوبة الهجوم على إسرائيل أو تطبيق سياسة الصبر الإستراتيجي. ولذا، تعتبر سياسة “التراجع البطولي” أقوى وسيلة للخروج من هذا المأزِق المحوري.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.