عقدت جولة مفاوضات جديدة بخصوص وقف إطلاق النار في غزة، حيث ارتفع سقف التوقعات قبلها، ثم أُعلن عن عدم التوصل إلى اتفاق بعدها. هذا النموذج المتكرر من الإدارة الأميركية، التي تقود جهود الوساطة وتتحدث عنها، يعزز علامات الاستفهام حول الهدف الحقيقي منها.
في سياق الجولة الأخيرة، يرى الكثيرون أن الهدف الرئيس كان منع أو تأجيل ردّ إيران على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، على أراضيها، لكن التعمق في قراءة المشهد قد يضيف هدفًا آخر، ربما يكون أكثر اتضاحًا بعد أن زادت المواجهات اشتعالًا بين إسرائيل وحزب الله في الأيام الأخيرة.
إدارة المفاوضات
منذ بدء مسار التفاوض، فرضت الإدارة الأميركية نفسها وسيطًا رئيسًا يدير المشهد التفاوضي مع كل من قطر ومصر، رغم أن اصطفافها العلني والرسمي إلى جانب الاحتلال سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا يجعلها أبعد ما تكون عن صفة الوسيط، فضلًا عن الوسيط النزيه.
يردد المسؤولون الأميركيون منذ شهور أنهم “قريبون جدًا من التوصل إلى اتفاق”، وأن المتبقي هو تفاصيل هامشية يمكن حلها بسرعة، دون أن يتحقق ذلك. بل في معظم الأحيان، كان المشهد التفاوضي يتراجع إلى ما قبل المواقف القائمة بعد تبديل الجانب “الإسرائيلي” موقفه التفاوضي.
وعلى مدى شهور طويلة أيضًا، أعلنت الإدارة الأميركية عن رفضها و/أو تحفظها على بعض التوجهات “الإسرائيلية”، مثل استهداف المدنيين أو اجتياح رفح، دون أن تبدي أي رد فعل عند تجاوز الاحتلال خطوطها المفترضة. بل على العكس تمامًا، كررت مرارًا دعمها لـ “حليفتها إسرائيل” تجاه أي تهديدات تتعرض لها بسبب عدوانها، رافعةً بشكل متكرر من مستوى دعمها السياسي والعسكري والمالي.
وعليه، ليس من المبالغة القول إن إدارة واشنطن لعملية التفاوض هدفت دائمًا إلى الإيحاء بقرب التوصل إلى اتفاق خدمةً لمصالحها الذاتية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية القادمة، وبما يشكّل غطاءً لحكومة نتنياهو في الجرائم والمجازر التي ترتكبها، ويخفض من مستوى الضغط/النقد الموجه لها. أما الجولة الأخيرة، فيوحي توقيتها بارتباطها بالرد المنتظر على ما عدّته طهران انتهاكًا لسيادتها واختراقًا لأمنها ومحاولة لتغيير معادلات الردع بشكل “يمسُّ بشرفها”.
فقد أتت الجولة الأخيرة بعد اغتيال هنية وما أثاره من انطباعات بأن العودة للتفاوض ستكون صعبة ومتأخرة، وعدم تبدل موقف نتنياهو وحكومته، وثبات حماس والفصائل الفلسطينية على موقفهما وشروطهما، حيث طالبتا الوسطاء بتطبيق خطة بايدن “بدلًا من الذهاب إلى مزيد من جولات التفاوض” التي ستتحول “غطاءً لمجازر إضافية”.
رغم كل ما سبق، أشاع البيان الثلاثي الذي صدر عن كل من الولايات المتحدة ومصر وقطر أجواء إيجابية جدًا حين تحدّث عن “اتفاق إطاري لا ينقصه سوى الانتهاء من التفاصيل الخاصة بالتنفيذ”، مبديًا استعداد الوسطاء لطرح “مقترح نهائي لتسوية الأمور المتبقية المتعلقة بالتنفيذ”، وموحيًا بموقف أكثر جدية حين حذر من “إضاعة مزيد من الوقت” ورفض “أي أعذار من أي طرف لمزيد من التأجيل”. ومن الجدير ملاحظته أن مكتب نتنياهو شارك في عملية الإيهام هذه حين تحدث عن إيفاد وفد “لوضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل وتنفيذ الاتفاق الإطاري”.
وبعد يومين من المباحثات، تحدث بيان ثلاثي جديد عن “محادثات مكثفة” للتوصل إلى اتفاق ووصفها بأنها “جادة وبناءة وأجريت في أجواء إيجابية”، وعن مقترح أميركي “يقلص الفجوات بين الطرفين” ويبني على “نقاط الاتفاق التي تحققت” خلال الأسبوع السابق وبشكل “يسمح بالتنفيذ السريع”، منبئًا عن اجتماع لاحق في القاهرة.
تكرارُ رفع السقف عاليًا قبل جولة التفاوض، ثم الحديث اللاحق عن مقترحات واجتماعات مستقبلية يعززان من التقييم بأن الهدف المنشود هنا ليس التوصل إلى اتفاق وإنما إدارة عملية التفاوض نفسها، بحيث تبقى مستمرة لتخدم الأهداف سالفة الذكر، مضافًا لها الهدف الجديد وهو الحيلولة دون الرد الإيراني. ومما يدعم هذا الانطباع تزامنها مع جهد سياسي ودبلوماسي محموم مع طهران قام به الأميركيون وعدد من الأطراف الأخرى لخدمة هذا الغرض بأشكال مباشرة وغير مباشرة معلنة وسرية.
دعم بلا حدود
بيد أن أمامنا في المشهد الإقليمي ما يدفع للنظر في دوافع أخرى لهذا النمط المتكرر في التفاوض، وهو توفير مساحة زمنية – ولوجيستية – لدولة الاحتلال لكي تستبق الرد الإيراني، ومعه رد حزب الله على اغتيال قائده العسكري فؤاد شُكر بهجوم كبير على لبنان/الحزب بشكل أساسي وربما يضاف له إيران، وقد استفادت إسرائيل بهذه المساحة الزمنية بالفعل وعادت قبل يومين لتضرب مخازن سلاح لحزب الله في شرق لبنان لترتفع بعد ذلك مجددًا وتيرة القصف بين الطرفين.
ثمة ما لا تخطئه العين في السلوك الأميركي بخصوص الحرب الحالية في بُعدها الإقليمي وليس فقط سياق العدوان على غزة. ونشير هنا بشكل محدد إلى الخطوات الأميركية المكثفة والمتسارعة في الفترة التي تلت اغتيال شُكر وهنية، وارتفعت فيها احتمالات توسع المواجهة إقليميًا، التي يفترض أن واشنطن لا تريدها ولا تريد للحكومة “الإسرائيلية” الدفع باتجاهها.
يبدأ ذلك بالاتصال الهاتفي بين وزيرَي دفاع الطرفين، الذي أكدت من خلاله الإدارة الأميركية التزامها “باتخاذ كل خطوة ممكنة للدفاع عن إسرائيل”، والحشد العسكري الكبير “لحماية إسرائيل من أي تهديد تتعرض له”، بما في ذلك حاملات الطائرات والغواصات وطائرات “إف – 22 رابتور”، وحزمة تمويل إضافية بقيمة 3.5 مليارات دولار (إضافة إلى 26 مليار دولار صادق عليها بايدن في أبريل/ نيسان الماضي)، والموافقة على مبيعات أسلحة لدولة الاحتلال بقيمة 20 مليار دولار تشمل طائرات مقاتلة وصواريخ جو – جو وذخائر وقذائف من مختلف الأنواع، وهي الموافقة التي تكمن أهميتها في التوقيت والقيمة، وإن كان التسليم ليس فوريًا.
ومن المهم في هذا الإطار الالتفات إلى صيغة التصريحات الأميركية التي تعدُّ أي رد على عمليات الاغتيال “عدوانًا” يستلزم المشاركة في “الدفاع” عن دولة الاحتلال، وكأن واشنطن تنفي ضمنًا أن تكون “إسرائيل” من نفّذ الاغتيال (وذلك في مقدمة أسباب عدم التبنّي الرسمي) و/أو أن يكون لطهران حقّ الرد.
وفق هذه المعطيات، لا يعود مهمًا كثيرًا ما إذا كانت الإدارة الأميركية تتفق مع حكومة نتنياهو بضرورة استثمار الأجواء الحالية لتوجيه ضربة قاسية لحزب الله و/أو إيران، أو كانت لا تريد ذلك لكنها ستدعمها في حال توسعت الحرب، إذ إن النتيجة واحدة في الحالتين. لا يختلف كثيرون على أن الولايات المتحدة لو شاءت وقف الحرب فعلًا لاستطاعت ذلك في غضون أيام أو ساعات، لكنها لم تتخذ بعدُ قرارًا من هذا النوع.
استباق الرد؟
ينبغي التنبّه إلى أن إدارة بايدن شاركت، إلى جانب دعم الاحتلال بكافة الصور، في عمليات خداع وتمويه؛ خدمة لأجندة حكومته. فقد أتى اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية في ظل سحب حاملات الطائرات الأميركية من شرق المتوسط، موحيًا بتراجع التوتر، كما أتى اغتيال فؤاد شُكر (في الضاحية كذلك، وبأسلوب لا يمكن إلا أن يكون بتنسيق مع واشنطن) بعد طمأنات وصلت للجانب اللبناني بأن “إسرائيل” ستتجنب استهداف بيروت في إطار ما أسمته “ردها على هجوم مجدل شمس”.
وهناك أمثلة أكثر تقول إن كل إيحاء بتراجع التوتر أو طمأنات أو تأكيدات على رفض الإدارة الأميركية توسيع المواجهة في المنطقة كان جزءًا من عملية تضليل استغلها الاحتلال. وعليه، فالأمر في السياق الحالي قد يكون جزءًا من تضليل أكبر، لا سيما أن حجم الحشد العسكري الأميركي في المنطقة (إضافة إلى مؤشرات أخرى مثل وقف الرحلات الجوية إلى تل أبيب لأشهر) يوحي بالاستعداد لحرب طويلة الأمد.
هنا، لا ينبغي أبدًا التهوين من فكرة أن كل الجهود الأميركية الأخيرة لا تحاول فقط تأجيل أو إلغاء رد إيران وحزب الله، ولكن قد تكون تسعى لإتاحة الفرصة لنتنياهو لمفاجأتهما بهجوم استباقي، وتحديدًا ضد حزب الله في لبنان.
فالقناعة لدى الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول أنه ينبغي منع فرص إطلاق عملية مشابهة من جنوب لبنان، ما يعني ضرورة توجيه ضربة قاصمة لحزب الله بغض النظر عن الموقف في غزة. واللافت أن ذلك كان موقف غالانت في اليوم التالي مباشرة لعملية طوفان الأقصى. وكما تتفق الإدارة الأميركية مع الاحتلال بضرورة القضاء على حركة حماس، ولكن تختلف معه في بعض التفاصيل، فهي تتفق معه كذلك في هدف القضاء على حزب الله، ولكن قد تختلف فقط في بعض التفاصيل.
ويبدو أن حزب الله بات مدركًا هذه الحقيقة، كما تشي بذلك تصريحات أمينه العام حسن نصر الله، ويوحي بذلك التصاعد في عملياته وكذلك رسائل الردع المتتالية. ولذلك، فالأسلم ألا يقع في فخ “الطمأنات” الأميركية.
في المشهد الحالي، ليس هناك نية أو قناعة لدى الاحتلال بوقف إطلاق النار في غزة، ولا ضغوط حقيقية عليه لفعل ذلك، ولا بوادر أو مؤشرات لشيء مشابه، ما يعني أن العدوان مستمر واحتمالات التوسع الإقليمي قائمة. وفي هذه الحالات، من سارع بالضربة الأولى كانت له الأفضلية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.