هل يمكن تجنّب الصراع في فلسطين؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون العودة إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه إسرائيل، ومحاولة فهم طبيعة هذا الصراع، وحقيقة أهداف إسرائيل، ودورها في المنطقة.
كانت فلسطين – مثلها مثل بقية البلاد العربية – جزءًا لا يتجزأ من دولة الخلافة العثمانية، وعلى امتداد الحروب الصليبية كان البحر المتوسط موقعَ المزاحمة والصدام الأوّل مع أوروبا، ولأسباب اقتصادية وإستراتيجية اتخذت الممالك الصليبية من التعبئة الصليبية لتحرير قبر المسيح (عليه السلام) غطاءً لهذه الأطماع.
وقد شاركت الخلافة العثمانية في حماية بيضة الإسلام وديار المسلمين، وبالأخصّ فلسطين التي ظهرت فيها أطماع الصهاينة الغربيين في وقت مبكر من ضعف الدولة العثمانية، وبداية تفككها، ويكفي أن نتفحص أسماء الذين توسطوا لـ (هرتزل) عند السلطان عبد الحميد الثاني، ومنهم (غليوم) قيصر ألمانيا، ومبعوثون روس وبريطانيون، لندرك أن المشروع الصهيوني في فلسطين هو مشروع غربي بامتياز، بدأ مبكرًا منذ (نابليون) على الأقلّ.
استلاب روح الأمة
ومع سقوط دولة الخلافة وقعت الديار العربية تحت الانتداب البريطاني – الفرنسي، ويوم سقوط بيت المقدس في يد الصليبيين الجدد أثناء الحرب العالمية الأولى في ديسمبر/ كانون الأوّل 1917، قال القائد البريطاني اللورد (اللنبي) في إشارة إلى انهيار الجدار الأخير في وجه الاستعمار الغربي: (الآن انتهت الحروب الصليبية).
مع سقوط النظام السياسي الإسلامي، قام الغرب باستكمال حلقات الحصار بالغزو الفكري: (الاستشراق والتغريب) في محاولة لاستلاب روح الأمة وعقلها، ليستكمل بعد ذلك حلقات الغزو بالقوة والمجازر، وذلك بإعلان إقامة (دولة إسرائيل) في 15/5/1948، دون أن يكون للأمّة أي قدرة على منع هذه الكارثة، النكبة، المؤامرة بعد أن فقدت مناعتها الداخليّة.
وَفق هذه الترتيبات تم إنشاء إسرائيل، دولة استعمارية عازلة على شاطئ المتوسط الشرقي، تعزل بلاد الإسلام في آسيا عن بلاده في أفريقيا، وتؤمّن للغرب السيطرة الكاملة لمنع أي وحدة بين مصر والشام، وتؤمن بذلك سيطرة الغرب، ونهبه، وتحكّمه في الشرق الإسلامي، ومنع نهضته واستقلاله.
وفي الوقت نفسه تمثل حلًا (للمسألة اليهودية) التي نشأت في الغرب وألمانيا النازية على وجه الخصوص، ونشير هنا إلى أن وعد وزير خارجية بريطانيا (بلفور) بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، تم إعلانه عام 1917، أي قبل المحرقة اليهودية بسنوات والتي جرت في ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وبلغت ذروتها عام 1945. وأكثر من ذلك، لقد تمّ استغلال المحرقة لاستمالة اليهود للمشروع الصهيوني المشبوه والمريب في ذلك الوقت، حيث لم يكن طموح اليهود آنذاك سوى العيش كبقية المواطنين في بلادهم الأوروبيّة.
وهكذا تقاطع المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة مع أطماع الحركة الصهيونية؛ لجلب اليهود إلى فلسطين، وحلّ المسألة اليهودية – التي هي مرض أوروبي – على حساب الشرق الإسلامي والشعب الفلسطيني لتنشأ (المشكلة الفلسطينية).
فإسرائيل منذ إنشائها كانت مشروعًا عضويًا للاستعمار الغربي ممثلًا في بريطانيا، وهي اليوم قضية عضوية للغرب، ممثلًا بالولايات المتحدة الأميركية، تحميها وتحافظ على أمنها وقوتها ورفاهيتها، وتدافع عنها بكل الأدوات السياسية والمالية والعسكرية، والقانونية وتجعلها كيانًا فوق المساءلة، رغم الجرائم غير المسبوقة التي ترتكب على البثّ المباشر، على مدار الوقت على مسمع وبصر العالم.
وما يسمى (بالشرق الأوسط) منذ إنشاء إسرائيل يدخل من أزمة إلى أزمة، ومن حرب إلى أخرى للحفاظ على تفوق إسرائيل، والحيلولة دون انهزام زبائنها في المنطقة. وكل المشاريع التي يطرحها الغرب في كل مرحلة من مراحل الصراع، كانت تهدف للتطبيع بين دول عربية وإسرائيل، منذ كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة، وأبراهام، وهي مشاريع استعمارية عبارة عن إغراءات اقتصادية ومساعدات مالية لأنظمة منهارة.
أقطاب متصارعة
يتحدثون عن أوهام السلام الاقتصادي، وسنغافورة الشرق، وخط نقل الطاقة والبضائع، لأن إسرائيل مشروع استعماري لإخضاع المنطقة، ونهب ثرواتها، والتحكم بحاضرها ومستقبلها، ومنع أي نهضة فيها، وليست مشروعًا لليهود الذين يدسون أوراق أمانيهم في شقوق حائط البراق، ولا للعرب الذين يتراكضون خلف وعود العم سام.
وجميع أزمات المنطقة إما ناتجة مباشرة بفعل إسرائيل زمنَ ما يسمّى (الصراع العربي – الإسرائيلي)، كما يتضح ذلك في لبنان، وسوريا، ومصر، والأردن، أو متأثرة بشكل مباشر وكبير بها كما في بقية البلدان كافة، لأن الصراع ليس صراعًا تقليديًا محدودًا على النفوذ بين القوى الكبرى سواء بالشكل الاستعماري القديم، أو بالاستعمار الحديث. وهو ليس صراعًا جغرافيًا على قطعة أرض فحسب، بل هو صراع شامل له أبعاده الحضارية والعَقَدية، والتاريخية، والثقافية، إضافة إلى بعد النفوذ والمصالح.
ولذلك تجد أحيانًا أن الأقطاب المتصارعة في الغرب تلتقي مصالحها على دعم إسرائيل والحفاظ على أمنها.
في عالم ثنائي القطبية تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، توفر هامش للمناورة لبعض زعماء دول المنطقة العربية لمواجهة محدودة مع إسرائيل؛ لأسباب مختلفة باتت معروفة ليس من بينها فلسطين، في سنوات 1956، 1967، 1973، رغم الدعاوى التي صدّعت رؤوس الشعوب العربية حول المعركة مع العدوّ من أجل فلسطين، والتضحيات في سبيل تحريرها، والتي كانت مبررًا لقمع الشعوب وتأجيل سؤال النّهضة.
كما أصبحت مبررًا للتطبيع والتحالف مع المحتل وطعن فلسطين في مرحلة لاحقة. واستخدمت الأنظمة العربية المختلفة والمتناحرة، الورقة الفلسطينية في ادعاءاتها حول مواجهة المشروع الصهيوني؛ للتغطية على كل فشل في مرحلة ما سمّي بـ (الصراع العربي – الإسرائيلي).
لقد تبددت القضية الفلسطينية بين الدول العربية التي قامت بداية بدور ضبط النضال الفلسطيني، ثم التخلي عنه تمامًا، والتنكّر لأي مقاومة فلسطينية.
إن فشل ما يسمّى (النظام العربي) في هذه المواجهات، كان بسبب أنه خاضها دون إدراك لطبيعة الصراع في المنطقة، ولا فهم لطبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه، وهو تحت حماية الغرب والحاجة إليه عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، مما سمح للغرب وبالتالي لإسرائيل بترسيخ نفوذهما الاقتصادي والسياسي والإستراتيجي في المنطقة العربية.
ومع الاستدارة الكبيرة للرئيس المصري (أنور السادات) أصبح واضحًا للعيان التخلي العربي عن فلسطين في اتفاق (كامب ديفيد) عام 1979، الذي حدد المدخل والإجراءات التي كرّست ارتهان المنطقة العربية لأميركا بالكامل، ودخول إسرائيل إلى العالم العربي من الباب الكبير، وصولًا إلى اتفاقات (أبراهام) التي تركت حتى المفاوض الفلسطيني في العراء.
مواجهة لا مفرّ منها
مع طي صفحة الصراع (العربي – الإسرائيلي) واستبدالها بمرحلة (الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي) تحت شعارات جذابة من قبيل (القرار الوطني المستقل)، بدأت سلسلة التنازلات الفلسطينية تدريجيًا منذ تبنّي منظمة التحرير الفلسطينية (البرنامج المرحلي) الذي تم إقراره في المؤتمر الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة، وصولًا إلى اتفاق (أوسلو) الذي فتح الباب على مصراعيه للقفز التام عن القضية الفلسطينية، وتطبيع وتحالف أنظمة عربية مع إسرائيل فيما سمي اتفاقات (أبراهام) لمواجهة ما دعي أطماع إيران في المنطقة.
وهكذا فشلت تمامًا كل التصورات لإقرار السلام في المنطقة، وتحقيق أدنى الحقوق الفلسطينية عبر مسيرة تنازلات طويلة.
وفي ظلّ حصار غزة الطويل (17 عامًا)، حيث تحول القطاع إلى سجن مفتوح لأكثر من مليونَي فلسطيني مع اعتداءات متواصلة وحروب لا تتوقف، مع محاولة عزل القطاع عن القضية الوطنية واستباحة تامة للقدس والضفة الغربية التي تحولت إلى دولة للمستوطنين المسلحين (مع ما يقارب 800,000 مستعمر يتوزعون في أكثر من 400 مستوطنة وبؤرة استيطانية)، مع جدار فصل عنصري يحول الضفة الغربية إلى معازل حقيقية خانقة، كان واضحًا والحال هذا أنّ الصراع لا يمكن تجنبه وأنه يمكن أن ينفجر في أي وقت.
إن عدم تقديم أي مرونة في حل الدولتين فضح النوايا الأميركية والإسرائيلية. كذلك فإن استدارة النظام العربي للتطبيع والتحالف مع إسرائيل في اتفاقات (أبراهام) التي شملت 4 أنظمة عربية في موجتها الأولى ولّدت انطباعًا خادعًا بانتهاء وتصفية قضية فلسطين، خاصة أنّ هناك قناعة سائدة عند أنظمة عربية بعد الربيع العربي وما سمي بالثورات المضادة بأن أمن إسرائيل، وأمن الغرب وحلفائه بالمنطقة لا ينفصلان.
وذلك في الوقت الذي أصبح فيه التزام إيران إلى جانب المقاومة – وكذلك إحساس المقاومة بهذا الالتزام – أمرًا حيويًا في المعادلة الإقليمية. وفي محاولة مفضوحة لتجاوز القضية الفلسطينية وتبرير تحالف أنظمة التطبيع مع المحتل، اعتبرت هذه الأنظمة تقارب فصائل المقاومة مع إيران موجهًا ضد مصالحها، في الوقت الذي لا تريد، ولا تقدر على التقارب مع المقاومة، ولا حتى مع الشعب الفلسطينيّ، وتذهب للتحالف مع عدوّه إسرائيل!
لقد كانت (سيف القدس) و(مسيرات العودة) إضافة إلى الاعتداءات المتتالية على قطاع غزة في 2008، 2012، 2014، 2019، 2021، 2022 وعلى الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى، مؤشرات لا تخطئها العين بأن المواجهة مع العدو لا مفرّ منها ولا يمكن تجنبها إلا إذا استسلم الشعب الفلسطيني بالكامل لمنطق الأموات الذي تبشّر به (خطة الحسم) لسموتريتش، وبن غفير والتي تخيّر الفلسطيني بين العمل كأجير في خدمة إسرائيل، أو الترحيل أو القتل.
برنامج الحسم
منذ فشل محادثات (كامب ديفيد 2) في يوليو/تموز عام 2000 في فرض الاستسلام الكامل على الرئيس عرفات – رحمه الله – بخصوص قضايا الحل النهائي المؤجلة، منذ توقيع اتفاق أوسلو: (الأرض، والقدس، واللاجئين، والمستوطنات، والأمن)، اتخذت إسرائيل إستراتيجية ثابتة لتصفية القضية الفلسطينية من خلال فرض وقائع على الأرض، خاصة في الضفة الغربية، دون أي اكتراث بأي التزامات أو اتفاقات أو قرارات دولية.
ومع ذلك يحاول الإعلام المعادي الادعاء بأن سبب عدوان الاحتلال في حملة (مخيمات صيفية) على مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية في جنين وطوباس وطولكرم، هو ردة فعل على (طوفان الأقصى)، وخشية من تكرار “الطوفان” في الضفة الغربية.
لقد ضاعفت إسرائيل منذ توقيع اتفاق أوسلو سياسة مصادرة وضم أراضي الضفة وتشريع قوانين لذلك، وتضاعفت وتيرة الاستيطان، وإقامة مستعمرات جديدة، وتوسيع القائمة، وتبييض البؤر الاستيطانية، حتى تحولت الضفة الغربية إلى دولة لأكثر من 800,000 مستوطن يهودي، تم تسليحهم لاحقًا على يد المستوطن المتطرف (بن غفير).
وتم عزل الكثافة السكانية الفلسطينية في أضيق مساحة ممكنة من الأرض في معازل حقيقية محاطة بالأسوار، والبوابات، وحواجز التفتيش، والطرق الالتفافية، والمستعمرات اليهودية من كل جانب. كما تمّ تقييد البناء الفلسطيني في المناطق المصنفة “ب” ثم في المناطق المصنفة “ا”.
ومن جانب آخر، خرجت قوات العدو في سلسلة من الاعتداءات؛ لقمع المقاومة الفلسطينية في مناطق السلطة الفلسطينية، أشهرها عملية (السور الواقي) عام 2002، مرورًا بسياسة (جزّ العشب) وصولًا إلى (كاسر الأمواج)، والاجتياحات التي لم تتوقف يومًا.
وفي خلفية هذه الاعتداءات تم إعلان (برنامج الحسم) لحزبَي الصهيونية الدينية، والقوة اليهودية، وتم انتخابهما على أساس هذا البرنامج ليشكلا مع الليكود مركز القرار السياسي الصهيوني، بعد أن كانا هوامش (كاهانية).
برنامج الحسم يأتي في سياق الإستراتيجية الصهيونية الثابتة ليسرّع في إحداث تغييرات ديمغرافية بالقوة الغاشمة، وفتح الأفق أمام التهجير القسري، وإعادة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة إن أمكن بعد إلغاء قانون فكّ الارتباط مع غزة وشمال الضفة عام 2005.
وإذا كان هناك من علاقة بين العدوان في شمال الضفة في حملة “المخيمات الصيفية” وبين “طوفان الأقصى”، فهو أن تواطؤ الإدارة الأميركية والغرب عمومًا مع الجرائم الصهيونية في غزة، وعجز العرب وشَلل السلطة الفلسطينية أمام هذه الجرائم، يشجّع ذلك إسرائيل على ممارسة عدوانها وجرائمها في الضفة بشكل فجّ، ودون أي تبريرات، أو اعتبار لأحد، وصولًا إلى دعوة بن غفير لبناء كَنيس يهوديّ في المسجد الأقصى.
إننا نفهم عدوان (المخيمات الصيفية) في سياق إستراتيجية الاحتلال الثابتة لتصفية القضية الفلسطينية، وفي سياق خطة الحسم المعلنة على رؤوس الأشهاد. كما نفهم (طوفان الأقصى) في هذا السياق الطويل من العدوان والمجازر والمؤامرات على مدار أكثر من قرن، ولا نفهمه أنه بدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.