بدأ الاحتلال الإسرائيلي حملتَه العسكرية المكثفة والمركزة في شمال الضفة الغربية يوم 28 أغسطس/آب الماضي، مستهدفًا على الخصوص مدن: طوباس، وطولكرم، وجنين، ومخيمات، مثل: نور شمس، وجنين، والفارعة. وما يحدث ليس إلا حلقة جديدة في سلسلة حملات عسكرية لم تتوقف منذ سنوات، كحملة “السور الواقي”، و”جزّ العشب”، و”بيت وحديقة”، وصولًا إلى الحملة الحالية التي تحمل اسم “مخيمات صيفية”.
ورغم أن هذه الحملات تمكّنت، بشكل مؤقت، من إضعاف المقاومة الفلسطينية، فإن المقاومة ما لبثت أن عادت، بقوة أكبر وانتشار أوسع، خاصة بين الشباب الفلسطيني. إذ أظهرت استطلاعات أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في يونيو/حزيران 2024، أن 75% من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يؤيدون عملية “طوفان الأقصى”، ويرون أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام العالمي.
دوافع وأهداف الحملة
لم تتوقف حملات الاعتقال والمداهمة والقتل في الضفة الغربية قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنها تكثفت بعد معركة “طوفان الأقصى”، وخلال 11 شهرًا، أدت إلى استشهاد أكثر من 600 فلسطيني، وجرح نحو 5800، واعتقال أكثر من 10 آلاف.
ومع ذلك، يثار التساؤل: إذا كانت هذه الحملات مستمرة طوال هذه الفترة، فلماذا تكثفت الحملة العسكرية بشكل أكبر الآن؟ والإجابة في النقاط الثلاث التالية:
- المقاومة في الضفة الغربية:
على الرغم من كثافة العمليات الأمنية الإسرائيلية، تمكّنت المقاومة الفلسطينية من النموّ كمًا ونوعًا، وانتشرت داخل الضفة بشكل يقلق الاحتلال. وتعتبر الضفة الغربية خاصرة رخوة في أمن إسرائيل، وكانت تاريخيًا مصدرًا للعمليات الفدائية/ الاستشهادية في قلب المدن الإسرائيلية، التي توقّفت لسنوات، لكنّها عادت مجددًا في ظلّ استمرار الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
إحدى هذه العمليات تمثلت في قيام شاب فلسطيني بالوصول إلى تل أبيب الشهر الماضي، حاملًا عبوة متفجرة زنتها 10 كيلوغرامات، والتي انفجرت أثناء سيره في الشارع. الحادثة، التي كادت أن تكون أكثر دمارًا لو وصل المهاجم إلى هدف حساس، شكلت تحديًا إستراتيجيًا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته التي تواجه ضغوطًا من الأجهزة الأمنية والجيش لعقد اتفاق مع حركة حماس، لتجنب الاستنزاف والغرق في مواجهة مفتوحة.
- تعزيز الاستيطان:
توسع المقاومة الفلسطينية يشكل عائقًا أمام المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، الذي تدعمه الحكومة بقيادة وزيري المالية والأمن القومي، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، تحت قيادة بنيامين نتنياهو.
تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى رفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية من 800 ألف إلى 2 مليون مستوطن في السنوات القليلة المقبلة؛ بهدف إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية، وتهويد القدس والمسجد الأقصى، وضم الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية بحكم سياسة الأمر الواقع.
وقد صرّح وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش، يوم 31 أغسطس/آب الماضي، قائلًا: “نعمل على الأرض لتعزيز الاستيطان وإحباط قيام دولة فلسطينية”، مشيرًا إلى الحملة العسكرية في الضفة. كما أعلن بن غفير عزمه بناء كَنيس يهودي داخل المسجد الأقصى.
- تحييد خطر حزب الله:
بعد أن تمكن الاحتلال من احتواء رد حزب الله على اغتيال القيادي العسكري فؤاد شُكر وتجنّب سيناريو الحرب الموسعة، قرّر توجيه جهوده نحو الضفة الغربية للقضاء على المقاومة المتصاعدة هناك.
الاحتلال يخشى أن تتحول الضفة إلى ساحة استنزاف جديدة ومستدامة، تسعى حركة حماس إلى توسيعها من غزة إلى الضفة الغربية. ولذلك، يبذل جيش الاحتلال كل جهده للتخلص من خطر المقاومة في الضفة، لتفرغ إسرائيل جهودها العسكرية ضد المقاومة في غزة، وحزب الله في الشمال.
احتمالات متعارضة
كثافة العمليات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، التي تتم بالتنسيق مع أجهزة السلطة الفلسطينية، ستنجح في أحسن الحالات في إضعاف المقاومة في الضفة بشكل مؤقت، لكنها قد تفشل في تحقيق أهدافها، إذا تمكنت المقاومة الفلسطينية من إدارة المعركة على امتداد جغرافيا الضفة، التي تشكل 17% من مساحة فلسطين التاريخية، وبالاعتماد على خلايا صغيرة نائمة و”ذئاب منفردة”، كما حدث في عملية مهند العسود في ترقوميا شمال غرب الخليل، حيث تمكن بمفرده من قتل ثلاثة ضباط إسرائيليين بإطلاق 11 رصاصة فقط.
الأجواء الحالية لا تقود إلا إلى تفجّر الأوضاع في الضفة الغربية، فالأفق السياسي مسدود، والاحتلال يسعى لتصفية فكرة الدولة الفلسطينية، والاستيطان يتزايد ويواصل نهب الأراضي الزراعية والمياه، واعتداءات مليشيات المستوطنين المدعومة من جيش الاحتلال تتزايد على القرى الفلسطينية.
يقوم هؤلاء بقتل الفلسطينيين وحرق منازلهم ومزارعهم وسياراتهم. وهذا ما حذر منه رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، في رسالة لرئيس الوزراء نتنياهو، معتبرًا أن “الإرهاب اليهودي” قد يشعل الوضع في الضفة الغربية، مما يشكل تحديًا إضافيًا لجيش الاحتلال المستنزف في غزة، ومع حزب الله في الشمال. أضف إلى كل ما سبق، استمرار سياسات تهويد القدس والمسجد الأقصى.
ولكن، على الجانب الآخر، فإن صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، رغم الظروف الصعبة، وإبداع المقاومة الفلسطينية في القتال، يمثلان مصدر إلهام ودافعًا لاستنهاض المقاومة في الضفة الغربية. وتلك الأخيرة، عندما تثبت أقدامها، فإن عليها أن تتكيف مع الظروف الجغرافية والديمغرافية للضفة، فالنموذج الناجح للمقاومة في غزة، لا يقتضي استخدام الأساليب ذاتها، بل نهوض الهمّة واستقراء الواقع.
مرحلة حرجة
الحراك المقاوم في الضفة الغربية يأتي في مرحلة حرجة وحاسمة، ليلعب دورًا مهمًا في مسارين:
- وقف المشروع الاستيطاني الذي يشكل تهديدًا وجوديًا للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية. الدفاع عن النفس والأرض والمقدسات هو حق مشروع لكل شعب يخوض صراع تحرر وطني، خاصةً بعد فشل مسار المفاوضات، وتحول اتفاقيات أوسلو إلى عبء سياسي وأمني واقتصادي على الشعب الفلسطيني.
- إسناد المقاومة في غزة التي تواجه حملة إبادة جماعية منذ 11 شهرًا. وإذا افترضنا أن الاحتلال قد يتمكن من حسم المعركة لصالحه في غزة، فإن الضفة ستكون الهدف التالي لاستكمال المشروع الاستيطاني التهويدي، تمهيدًا لضمها إلى إسرائيل بدعم أميركي وصمت دولي وتخاذل عربي.
لذلك، تبقى وحدة الموقف الفلسطيني المقاوم ضرورية لحماية القضية الفلسطينية من التصفية التي تتعرض لها منذ عقود. ومن هنا، فإن المعركة الحالية في الضفة الغربية هي معركة وجودية ومنطلق لرسم مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.