بدأت آثار عملية طوفان الأقصى تظهر على إسرائيل قبل أن تضع الحرب أوزارها ويتلاشى غبار المعارك، فقد شهدت إسرائيل خلال العام المنصرم سلسة من الأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
فحاييم رامون وزير القضاء السابق وأحد أبرز أعضاء حزب العمل المعارض، يرى أن إسرائيل ليست على “بعد خطوة واحدة من النصر، بل على بعد خطوة واحدة من الهزيمة الإستراتيجية”.
فالاحتلال الإسرائيلي يخوض أطول حرب في تاريخه، ولم يستطع حسم المعركة بالوقت الذي أرداه، ولم يحقق أيا من أهدافه فيها.
الأمر الذي دفع المحلل السياسي الإسرائيلي رفيف دروكر للقول في صحيفة هآرتس “لقد قصفنا، وقتلنا، ودمرنا، ومسحنا، واعتقلنا، واستعملنا كل قوتنا، فضلًا عن الجسر الجوي الأميركي. وعلى الرغم من ذلك، فإن وضعنا الأمني أصعب من أيّ وقت مضى”.
الجيش.. “البقرة المقدسة”
يصف المجتمع الإسرائيلي الجيش بـ “البقرة المقدسة” نظرا لدوره في “حمايتهم”، ومكانته في نفوس الإسرائيليين، وبعد طوفان الأقصى زادت الانتقادات له وتلاشت هالة القداسة عنه وعن تصرفاته وأصبح أقل احتراما لدى المجتمع.
ويعكس حجم الاستقالات في صفوف قياداته، وقد يشهد المستقبل القريب استقالة رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي، “حجم الضياع الذي يمر به الجيش”.
وتعد تصريحات زعيم المعارضة الإسرائيلية ورئيس حزب “هناك مستقبل” يائير لبيد مؤشرا على ما يتعرض له الجيش الإسرائيلي منذ بدء معركة طوفان الأقصى، حيث ذكر أن الجيش خسر “12 كتيبة، وأكثر من 700 قتيل ونحو 10 آلاف جريح”.
تصريحات لبيد تظهر أن “حرب السابع من أكتوبر كشفت حقيقة أن هذا الجيش يعاني من الكثير من الضعف” كما يقول عماد أبو عواد مدير مركز القدس للدراسات، للجزيرة نت، فجيش الاحتلال “يعاني من النقص ويعتمد اعتمادا كليا على الولايات المتحدة الأميركية، مما أفقده الهالة التي كان يتمتع بها أمام الجمهور الإسرائيلي” وفقا لأبو عواد.
وقد كان لخسائر جيش الاحتلال في قطاع غزة أثر كبير على رؤية المجتمع للجيش، إذ يرى أبو عواد أن “هناك تراجعا في الثقة في قيادة الجيش الى حدود 55%. وهذه أرقام ليست سهلة. أي أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة أثبتت فشل هذا الجيش في التعاطي مع ملف الحرب”.
ملامح التردي التي وصل لها جيش الاحتلال ظهرت بشكل جلي في الضفة الغربية، فمن خلال متابعة اقتحامه للمدن والبلدات الفلسطينية ظهر أن قوات الاحتلال بدأت باستخدام الآليات الحديثة التي وصلت من الولايات المتحدة. وهو ما يظهر حسب مراقبين أن جيش الاحتلال بات يعاني من نقص واضح في المعدات، يعوضها من الشحنات التي وصلت من واشنطن.
وأظهر تصوير بثه حزب الله مؤخرا لقاعدة عسكرية في شمال إسرائيل أن جيش الاحتلال بات يعتمد في تنقلاته بسيارات دفع رباعي مدنية في الخطوط الخلفية على مختلف الجبهات، وهو أمر غير معتاد في الجيوش.
كما أن مشاركة منتسبي مصلحة السجون (الشاباص) في هجماته بالضفة يدلل بما لا يدع مجال للشك أن الاحتلال يعاني نقصا كبيرا في العنصر البشري لذا استعان بالشاباص غير المهيئين للقتال في المعارك.
ويرى مراقبون أن استمرار استنزاف جيش الاحتلال خلال الأشهر القادمة قد يصل لمرحلة الانهيار وعدم القدرة على القتال والاشتباك على جبهات غزة والضفة والشمال.
ما يعانيه جيش الاحتلال يظهر من خلال ما أعلنته هيئة تأهيل المصابين في الجيش مؤخرا من أنها استقبلت حتى الآن 11 ألف مصاب، وما زالت تستقبل ألف مصاب شهريا غالبية إصاباتهم إما بتر وإما في الرأس والعين وإما في الظهر.
ووفقا لتقرير لوزارة الدفاع الإسرائيلية فقد بلغ عدد قتلى جيش الاحتلال خلال الحرب 706 قتلى، وبلغت ميزانية عائلات القتلى خلال الأعوام من 2020 إلى 2022 1.7 مليار شيكل سنويا، وارتفعت خلال الحرب على قطاع غزة 1.8 مليار شيكل سنويا.
فيما بلغ عدد المصابين النفسيين ومعاقي الجيش قبل الحرب 62 ألف معاق مسجل، 11 ألفا منهم مصابون نفسيا. وبلغت ميزانية شؤون المعاقين 3.7 مليارات شيكل سنويا.
وتتوقع وزارة الدفاع أن يبلغ عدد المعاقين في نهاية العام الحالي 2024، 78 ألف معاق، 15 ألفا منهم مصابون نفسيا، وستبلغ ميزانيتهم 7.3 مليارات شيكل سنويا.
ولا تقف أزمة الجيش عند الخسائر المادية والبشرية والإخفاقات التي يتعرض لها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد أدت تلك الأزمات لتفجر أزمة تجنيد المتدنيين (الحريديم) في الجيش خاصه بعد النقص في عدد الجنود.
حيث يصل عدد من يمكن تكليفهم في الوقت الحالي 157 ألف شخص، لكن الجيش الإسرائيلي لا يقوم بتجنيدهم، ويرفضون الخدمة في الجيش، ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن مسؤول مشارك في تجنيد الحريديم قوله “إنهم وصلوا إلى نقطة يحتاج الجيش فيها على تجنيدهم”.
إلا أن واقع الحال يشير إلى أن رفض الحريديم للتجنيد لم يتغير إذ ذكرت صحيفة إسرائيل اليوم أنه تم في الآونة الأخيرة إرسال حوالي 3 آلاف أمر تجنيد إلى اليهود الحريديم، لكن أقل من 10% استجابوا وامتثلوا له.
مع تفاقم أزمة الحريديم ظهر على السطح الخلاف الحاد في المجتمع الإسرائيلي بين العلمانيين والمتدينين.
متدينون وعلمانيون
شهد الصراع بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل مراحل شد وجذب منذ الإعلان عن قيام إسرائيل في العام 1948، إلا أنه ازداد حدة منذ اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين في العام 1995، فلطالما شكل العلمانيون في إسرائيل (نحو 20% في المجتمع ومعظمهم من اليهود الغربيين) النخبة الحاكمة، وجاء اغتيال رابين “العلماني” على يد أحد المتدنيين بسبب ما “اعتبره تخليا عن أرض يهودية” بعد اتفاقات السلام مع الأردن والفلسطينيين، وفقا للكاتب الإسرائيلي دورون ويبر.
مثّل اغتيال رابين نقطة تحول في الاستقطاب بين الفريقين، سمحت باتساع الصدع المجتمعي، الذي بات يمثل أحد أخطر التهديدات الإستراتيجية التي تحدق بإسرائيل.
ومنذ الاغتيال بدأت عملية تحول في المجتمع والسياسة وشهدت صراعا خفيا في بعض الأحيان وصاخبا في أحيان أخرى بين اليمين والمتدينين في مواجهة دولة الدولة العميقة التي أنشأها حزب العمل وسيطر عليها اليهود العلمانيون الغربيون، وانعكست في مواجهة الجيش والأجهزة الأمنية ومحاولة إخضاعها للمتدينين.
ولم يكن ملف التعديلات القضائية التي سبقت طوفان الأقصى بمنأي عن هذا الصراع والتحشيد الذي يشهده المجمع. وزاد الاستقطاب بين الفريقين بعد طوفان الأقصى، ليكشف حجم الصراع الداخلي المحتدم بين القوى العلمانية ونظيرتها الدينية بإسرائيل.
وجاءت الحرب على غزة لتزيد “الشروخ والتصدعات الداخلية في الكيان الإسرائيلي، وأسهمت في حالة من التشنج بين أوساط المجتمع الإسرائيلي الذي يعاني أصلًا من الاستقطاب الحاد قبل الحرب كما يرى أسامة خالد الخبير الأمني والعسكري في تصريح للجزيرة نت.
فمنذ إعفاء ديفيد بن غوريون لليهود المتدينين من الخدمة العسكرية في العام 1948، أصبحت الإعفاءات مصدر إزعاج متزايد بالنسبة للعلمانيين الإسرائيليين الملزمين بالخدمة في الجيش والذين تسهم ضرائبهم في دعم الحريديم.
كما أبدى العديد من العلمانيين تخوفهم من توزيع 200 ألف قطعة سلاح من قبل وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير ذهبت غالبيتها العظمى للتيارات اليمينية والدينية. الأمر الذي قد يدفع إلى حالة احتراب مجتمعي في أي لحظة.
هجرة.. وتذكير بالتيه
“يبدو أن يهود القرن الحادي والعشرين يعودون للترحال” هذا ما قالته صحيفة هآرتس الإسرائيلية في تقرير لها حول الهجرة العكسية التي باتت سمة بارزة بعد طوفان الأقصى.
فقد تهشمت صورة الأمن لدى المجتمع وأصبحت إسرائيل مهددة “من أخطار كبيرة قد تؤدي إلى مستقبل مُخيف وغامض” وفقا لأسامة خالد الخبير العسكري والأمني.
فقدت ذكرت الصحيفة أن “عشرات آلاف اليهود في إسرائيل تركوا وطنهم بحثًا عن مكان أكثر أمنًا، سواء أكان الدافع الخوف من الحرب، أم انهيار الديمقراطية ومعارضة الحكومة وغلاء المعيشة”.
ووق هآرتس نقلا عن المكتب المركزي للإحصاء، غادر إسرائيل بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومارس/آذار من العام الحالي 42 ألفا و185 إسرائيليا ولم يعودوا حتى يوليو/تموز الماضي، وهي أكثر بـ12% من العام الماضي.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان الارتفاع دراماتيكيا، فقد غادر 12 ألف و300 شخص ولم يعودوا حتى الآن، بارتفاع 400% مقارنة بأكتوبر/تشرين الأول 2022.
وحسب البروفيسور إسحق ساسون، الخبير في الهجرة في قسم علم الاجتماع والإنسان في جامعة تل أبيب، “ربما يتضاعف عدد المغادرين مرتين أو 3 مرات في السنوات القريبة القادمة، بالأساس في أوساط الشباب”.
ووفقا لمعهد بحوث الأمن القومي في تل أبيب، فإسرائيل “تقف أمام انعطافة ديمغرافية”. مشيرا إلى أن المغادرين “هم رأس مال بشري نوعي، ومغادرتهم تعرض استمرار النمو الاقتصادي في إسرائيل للخطر”.
التهجير.. ليتنا تل أبيب
تعد أزمة النزوح التي يعانيها منذ 11 شهرا سكان مستوطنات الجنوب والشمال أزمة تؤرق المجتمع وتشعر سكان تلك المناطق أن الحكومة قد تخلت عنهم.
وقد عبرت صحيفة “معاريف” عن أثر هجمات حزب الله على شمال إسرائيل بالقول إنها “كافية لإخراج السكان من روتين حياتهم وبث الخوف والقلق في نفوسهم”.
فشيرلي سيسو، من سكان مستوطنة شلومي قال لوسائل الإعلام الإسرائيلية “نشعر أن حماس وحزب الله قد هزمونا، لقد ابتعدنا عن المنزل لمدة 11 شهرا وعلينا أن نتنقل بين عدد لا يحصى من الشقق، حتى نوفر المأوى والأمان للأولاد، كذلك أنا لا أعمل، انقلبت حياتنا رأسا على عقب”.
الأمر الذي دفع رئيس حزب العمل الإسرائيلي يائير غولان للقول إن الشمال ينهار وإنه لا يوجد أمن ولا إعادة إعمار، مؤكدا أن الحكومة الإسرائيلية تتخلى عن المنطقة تماما.
استمرار التهجير في مستوطنات الشمال والجنوب دفع سكان تلك المناطق للمقارنة بين وضعها ووضع مدينة تل أبيب؛ ففي خطوة احتجاجية قام سكان مستوطنات الشمال بوضع اسم مدينة تل أبيب على لوحات الطرق علّ الحكومة تهتم بهم إذا كانوا من سكان الوسط وتل أبيب.
وبهذا الشأن يقول الصحفي الإسرائيلي ألموغ بوكير في القناة 12 الإسرائيلية “طوال 20 عاما من حياتنا، كان هناك معايير خاصة بـ”غلاف غزة”، وأُخرى تتعلق بتل أبيب، مختلفة كليا”.
هل تزول دولة الرفاه
ذكرت صحيفة هآرتس أن الحرب وارتفاع تكاليف المعيشة تدفع المزيد من الإسرائيليين للهجرة إلى الخارج. ووفقا لدراسة لمركز الزيتونة للدراسات فقد تأثرت الظروف المعيشية للإسرائيليين، حيث ارتفعت معدلات البطالة والفقر، وانخفض إنفاق المستهلك بنسبة 0.7%، وارتفع مؤشر الأسعار للمستهلك بنحو 12%، وأدى ذلك إلى تدهور الوضع الاقتصادي للأسر الإسرائيلية.
ووفقا للدراسة فإن 85.1% من الأسر الإسرائيلية تعاني من نقص في الطاقة، بينما يعاني 81.8% من ديون متراكمة. وبلغ معدل الفقر في إسرائيل 22.7% في عام 2023، ثم ارتفع إلى 25.3% في منتصف عام 2024.
وتشير هذه الأرقام إلى أن أكثر من ربع السكان يعيشون تحت خط الفقر، وذلك يزيد من الأعباء على الخدمات الاجتماعية والدعم الحكومي، كما ارتفعت معدلات الجريمة بنسبة 7% نتيجة للضغوط الاقتصادية المتزايدة.
وتأثرت الشركات الإسرائيلية بسبب هذا الوضع المتردي للاقتصاد، فقد أظهرت بيانات شبه رسمية أن 726 ألف شركة إسرائيلية (صغيرة وناشئة) أغلقت منذ بدء الحرب، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 800 ألف بحلول نهاية العام.
وتراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 40%، من 25 مليار دولار في عام 2023 إلى 15 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024، وذلك يعكس تراجع ثقة المستثمرين الأجانب في السوق الإسرائيلية.
هذه الأزمات وغيرها دفعت العديد من المراقبين للقول إن إسرائيل تمر “بأخطر مراحلها التاريخية” وإن ما يظهر من قوة وعنفوان أمر “خادع”. فعند لحظة “الانكسار وما بعدها”.. ما يظهر من قوة هو عبارة عن محاولة للتظاهر “بالقوة والتصرف بانفعال لمنع الانهيار”.