يتصاعد التوتر على جبهة جنوب لبنان، فإسرائيل، وعقب محاولة ضرب البنية العسكرية المركزية لحزب الله عبر تفجير أجهزة “البيجر” والأجهزة اللاسلكية التي كانت بحوزة الآلاف من عناصر وكوادر وقياديي حزب الله، واغتيال القيادة العملياتية لفرقة الرضوان والمجلس الجهادي في حزب الله، بدا واضحًا أن الجيش الإسرائيلي انتقل إلى مرحلة جديدة من محاولات إضعاف قدرات حزب الله وجرّه إلى معركة واسعة.
هذه المرحلة تشمل استهدافًا مزدوجًا لمراكز ومنصات إطلاق الصواريخ، وتكثيف الغارات في قرى الجنوب والبقاع الغربي، بهدف قطع كل خطوط الإمداد لهذه الجبهة من شمال الليطاني إلى جنوبه.
في ضوء الحجم الهائل للدمار والرعب والمجازر التي أصابت لبنان أمس، وتهديدات إسرائيل بالمزيد، هناك من يتوقع أن تكون المرحلة الآتية من العملية العسكرية الإسرائيلية ثقيلة جدًا وعالية الكلفة البشرية والعسكرية. هذه المرحلة تُذكّر اللبنانيين بتلك التي دأب الجيش الإسرائيلي على إطلاقها في حرب غزة، عندما يريد ضرب الأحياء السكنية بما فيها من منشآت مدنية وبنى تحتية حيوية.
حكومة نتنياهو أرادت اختبار قدرات الحزب التي ما زال يتمتع بها عقب الضربات الثلاث الكبرى التي تلقاها الأسبوع الماضي، وسعت إلى تحديد مواقع منصاته الصاروخية الباقية
عمليًا، يمكن اعتبار أن مرحلة حرب الإسناد والإشغال والاتصالات الدبلوماسية انتهت فعليًا مع الزيارة الأخيرة التي أجراها الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين إلى تل أبيب، والتي عجز من خلالها عن إقناع الإسرائيليين بوقف اندفاعتهم. لكن الحدث الأبرز هو زيارة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي للحدود بين لبنان وإسرائيل، للاطلاع على خطط الهجوم المعدة للبنان. بعد هذه الزيارات، شهدت الجبهة تصعيدًا إسرائيليًا.
ثمة من يعتبر أن المؤشر الأبرز كان بإلغاء وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن زيارته لإسرائيل، وهو ما تزامن مع إعلانات أميركية متكررة عن الالتزام بالدفاع عن إسرائيل وحمايتها، وخاصة أن التصعيد الإسرائيلي الكبير، جاء بالتزامن مع وصول حاملات الطائرات الأميركية إلى شواطئ البحر المتوسط.
أهداف ورغبات
وثمّة من يعتبر أن إسرائيل التي صمتت يوم الأحد أمام موجات الصواريخ التي وجهها حزب الله إلى عمقها على أنه اختبار إسرائيلي بامتياز لقدرات الحزب. إذ نجح حزب الله في إصابة أهداف حيوية اقتصاديًا وعسكريًا في شمال حيفا، مما شكّل إعادة اعتبار معنوية جزئية له، بعد الضربات الأمنية والسيبرانية التي تلقاها أخيرًا. لكن في العمق، فإن حكومة نتنياهو أرادت اختبار القدرات التي ما زال الحزب يتمتع بها عقب الضربات التي تلقاها الأسبوع المنصرم، وسعت إلى تحديد مواقع منصاته الصاروخية الباقية، والاستعداد للخطة التي بدأت تنفيذها أمس.
يعني هذا أن حكومة نتنياهو أرادت اختبار قدرات الحزب التي ما زال يتمتع بها عقب الضربات الثلاث الكبرى التي تلقاها الأسبوع الماضي، وسعت إلى تحديد مواقع منصاته الصاروخية الباقية، والاستعداد للخطة التي بدأت تنفيذها أمس. هذه الخطة، وفقًا للتطورات الميدانية، تستهدف تحقيق أربعة أهداف رئيسية قبل انتهاء الأسابيع السبعة المتبقية من عمر الإدارة الأميركية الحالية:
- أولًا: تسعى إسرائيل لتدمير ما تستطيع من بنية منظومة الاتصالات الخاصة بحزب الله. بدأت هذه العملية باكرًا باستهداف المقاتلين والكوادر عبر رصدهم من اتصالاتهم عبر الأجهزة الذكية، ثم طورتها إلى استهداف هؤلاء الكوادر بواسطة أجهزة “البيجر” واللاسلكي التي تم خرقها وتفجيرها بحامليها. ما يعني أن المرحلة المقبلة قد تشهد عمليات جديدة أكثر خطورة؛ لأن إسرائيل تستخدم القدرات التي تسمح لها بتحقيق إنجازات في مجال التكنولوجيا والأمن السيبراني.
- ثانيًا: استهداف الشخصيات القيادية الميدانية من فؤاد شُكر وصولًا لإبراهيم عقيل وقادة فرقة الرضوان، التي أدارت كل عمليات ومعارك الحزب منذ تأسيسه، مرورًا بالحرب السورية. الهدف هنا خلق هوة بين العناصر المقاتلة وبين الإدارة المباشرة للعمليات.
- ثالثًا: ترغب الحكومة الإسرائيلية في توسيع إطار الحملات التدميرية لمنصات صواريخ الحزب ومخازنها، وتحديدًا في المناطق ذات التضاريس الصعبة التي لم تصل إليها الغارات قبل اليوم. هذا يفسر شمول الغارات في اليومين الأخيرين مناطق عدة في بعلبك والهرمل وجبل لبنان. ما يعني في نظر المراقبين أن إسرائيل لم تعد تسعى فقط لضمان عدم وجود تهديد صاروخي من حزب الله على مسافة كيلومترات عدة من الجنوب، بل هي تريد إنهاء منظومته الصاروخية بشكل شامل، لئلا تشكل تهديدًا مستقبليًا، سواء من الجنوب أو من البقاع والشمال والمناطق الحدودية مع سوريا.
- رابعًا: تسعى إسرائيل إلى إنشاء منطقة عازلة في الجنوب حتى خط الليطاني. ما يعني نقل خطوط المواجهة مع حزب الله وحلفائه من الحدود اللبنانية الإسرائيلية عند الخط الأزرق إلى حدود نهر الليطاني. ولهذه الغاية، تعمل على مسح المنطقة الحدودية بالقصف المكثف بغية التهجير الممنهج، وقد تستمر بذلك على مدى أيام أو أسابيع.
يبقى خيار الدخول البري التحدي الأبرز، إذ قد يؤدي إلى إخلاء المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني من سلاح حزب الله، وتحديدًا فرقة الرضوان النخبوية، ليصبح النهر هو خط التماس الجديد بدلًا من الخط الأزرق، وتصبح الحرب دائرة في داخل الجغرافيا اللبنانية، لا بين لبنان وإسرائيل.
استعصاء الحلول الدبلوماسية
في إطار متصل، لا يمكن القفز فوق الأهداف المبطنة لنتنياهو في هذه الحرب المفتوحة دون أفق. من المؤكد أن نتنياهو يسعى لعرقلة أي تفاهمات تم التوافق عليها بين واشنطن وطهران، والتي ظهرت مؤشراتها في مواقف عدة، أهمها تصريحات الرئيس الإيراني حول العلاقة مع واشنطن والبدء بمحادثات نووية.
الهدف الأبرز لنتنياهو هو جرّ واشنطن إلى نزاع واسع يطال المنطقة من خلال لبنان، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى إجهاض هذه التفاهمات. بدأت ملامحها أميركيًا بالحديث عن جدولة الخروج الأميركي من العراق. هذا المسار لم يكن ليحصل لولا وجود صفقة مع إيران تضمن الواقع الأمني للحضور العسكري الأميركي المتبقي في العراق، ويؤسس لتفاهم حول كيفية ملء الفراغ الذي سيحدث مع تركيا.
تلقى لبنان رسائل واتصالات كثيرة حول عدم الرغبة الدولية في الحرب الشاملة، وأنه لا يزال هناك مجال للتراجع والعمل على اتفاق دبلوماسي برعاية دولية وإقليمية. هذا الكلام سمعه المسؤولون في بيروت رغم كل التحذيرات التي تفيد بأنه في حال عدم التجاوب، فإن المعركة ستأخذ طابعًا أكثر قسوة وعنفًا، وأن مثال غزة قد يتكرر في لبنان.
من هنا تستمر الاتصالات واللقاءات الدبلوماسية في محاولة لمنع الانفجار وضبط التوتر. ليس من باب المصادفة أن تتزامن زيارة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان لبيروت مع تحركات المنسقة الأممية في لبنان في إسرائيل.
وعليه، فإن لبنان يشهد انتقالًا إلى مستوى جديد من الحرب. هذا الانتقال بدأ بالحديث عن وقف إطلاق النار في غزة لوقف جبهة الإسناد في لبنان، إلى معادلة يحاول نتنياهو فرضها وهي عودة سكان المستوطنات الشمالية. ما يعني أن ما ينتظر لبنان، خصوصًا المنطقة الواقعة جنوب الليطاني، سيكون أكبر وأخطر مما يجري اليوم، وأن إسرائيل لن توقف حربها هذه المرة إلا بعد قبول حزب الله بالتوصل إلى تفاهمات جديدة في الجنوب، بضمانات دولية، تبعد تمامًا أي خطر قد يشكله على إسرائيل لسنوات مقبلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.