عام من الإبادة الجماعية عانى فيه الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة والضفة الغربية الأمرّين من محتل مجرم مارس بحقه كل أشكال القتل والتشريد أمام مرأى ومسمع العالم أجمع.
عام لم يرقَ فيه الخطاب السياسي لدول العالم إلى حجم الانتهاكات التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي داخل قطاع غزة، في حين تنوّعت الفعاليات والأنشطة على امتداد العالم أجمع، ومنها داخل القارة الأوروبية؛ لتأخذ أشكالًا مختلفة، ومستويات تأثير متفاوتة.
كان القاسم الأبرز فيها محاولة ردم الهوّة الظاهرة للعيان بين المطالب الشعبية المؤيدة لفلسطين والرافضة للإجرام من جهة، وبين المواقف الرسمية التي بقيت رغم كل شيء منحازة كليًا للاحتلال وراضخة للموقف الأميركي الداعم بلا حدود لهذا الكيان من جهة أخرى.
تعددت السبل وتطورت وتصاعدت ببعدها الإبداعي وقدرة تأثيرها على كافة المستويات: القانونية، والسياسية، والاقتصادية، والحقوقية. ليحمل هذا العام أمثلة كثيرة ومتنوعة يمكن من خلالها الاستشهاد على زخم العمل الذي قدمته، وما تزال تقدمه القارة الأوروبية. فجاء الحراك مؤثرًا ومتأثرًا بجملة من الاستحقاقات والمتغيرات السياسية ببعدَيها: المحلي والقاري، سياسيًا وقانونيًا.
ولعلنا هنا، وقبيل يوم واحد من أحد هذه الاستحقاقات الهامة التي تصادف اليوم الأحد 29 سبتمبر/أيلول، حيث تقف النمسا على موعد استحقاق انتخابي برلماني، نستطيع القول إن تطورًا غير مسبوق ولا معتاد من قبل الحراك الفلسطيني الداعم والمساند لغزة قد حصل، وهو ما شكل صعودًا بارزًا إن لم يكن الأبرز في هذا السياق على امتداد العام.
ففي حين تتحضر النمسا، دولة وشعبًا، لإنجاز هذا الاستحقاق البرلماني، وفي ظل تموضع وانحياز كاملٍ ودعم لا متناهٍ مارسته حكومة البلاد لصالح الاحتلال الإسرائيلي، لم تغير منه كل الأنشطة المتوزعة والممتدة يوميًا منذ عام مقرونة بشلال الدم النازف داخل قطاع غزة. حيث كانت النمسا من بين الدول العشر التي رفضت بشكل واضح وقف إطلاق النار في قطاع غزة، في تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد هذا المشروع، يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 2023.
أمام ذلك كله، قررت مجموعة من المناصرين لفلسطين في النمسا إطلاق الخطوة الأولى بغية الانخراط في الحياة السياسية عبر بوابتها البرلمانية من أجل إحداث تغيير في معادلة صناعة القرار السياسي داخل البلد. وعن تخطيط ودراية، كان لا بد من كسب الإنجازات منذ اللحظة الأولى، فكان الإعلان عن إطلاق وتأسيس حركة سياسية حزبية تحت عنوان “قائمة غزة”.
ليأتي الاسم ابتداءً حاملًا للمضمون ولافتًا الانتباه إلى الأهداف، ومحققًا لبعضها، حيث رفع المؤسسون اسم غزة عنوانًا لهم لتكون البطاقة الانتخابية النمساوية بذاتها التي تحمل قوائم الأحزاب والمرشحين، والتي طرقت بيوت عموم الناخبين الذين يتجاوز عددهم 6 ملايين ناخب نمساوي على امتداد البلاد، رسالة عرض لمعاناة ممتدة وجريمة إبادة جماعية تمارس داخل قطاع غزة منذ عام بات من غير المقبول السكوت عنها، والاستمرار بموقف نمساوي مؤيد لمرتكبيها.
وعلى طريق المشاركة الرسمية في الانتخابات، نجح المؤسسون في تسجيل الحزب رسميًا داخل البلد ليستفيدوا من فرصة التغطية الحكومية لكافة تكاليف حملتهم الانتخابية إن حصلوا على ما يزيد على 1% من أصوات الناخبين.
وبغية اعتمادهم رسميًا داخل قوائم الانتخابات، كان لا بد من حصولهم على تفويض 2600 مواطن نمساوي ربطوا أنفسهم وتبنوا فكرة الحزب منذ البداية، فجاؤوا بأكثر من 3000 تفويض في مؤشر مهم على قوة حضورهم وانطلاقتهم. أما عن قائمتهم التي تقدموا وأعلنوا عنها رسميًا، فقد جاءت بـ 24 مرشحًا ومرشحة، متوزعين على عموم المحافظات النمساوية، ومتنوعين من حيث الأصول بين نمساويين وأتراك وبوسنيين وعرب وأفارقة، يحملون ديانات مختلفة: مسيحية، ومسلمة، ويهودية، ولا دينية.
وفيما يتعلق بالبرنامج الانتخابي، فإن الحزب وهو يهدف إلى رفع مستوى الوعي حول القضية الفلسطينية والضغط من أجل وقف الأعمال العسكرية الإسرائيلية، وخاصة في غزة مع التركيز على حقوق الإنسان والعدالة، فقد جاء برنامجه الانتخابي متضمنًا عدة نقاط رئيسة، ألا وهي:
- دعم وقف إطلاق النار ومطالبة النمسا باتخاذ موقف محايد وفق تقاليدها التاريخية.
- استعادة الحياد النمساوي، وعودة النمسا إلى سياستها التقليدية في الحياد وعدم الانحياز في النزاعات الدولية، مع التركيز على تعزيز السلام.
- حرية التعبير ورفض القيود المفروضة على حرية التعبير في النمسا، خاصة فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية، مع المطالبة بإنهاء التجريم الموجه ضد التضامن مع فلسطين.
- مناهضة العنصرية ومعاداة الإسلام ورفض التصعيد ضد المسلمين في النمسا، والدعوة إلى إنهاء السياسات التي تؤدي إلى التمييز ضدهم.
- الدعوة للعدالة في غزة ومطالبة النمسا بالانضمام إلى الجهود الدولية لمحاسبة إسرائيل على أفعالها ضد الفلسطينيين.
وفي سبيل ذلك، يتطلع الحزب إلى الحصول على عدد من المقاعد في البرلمان النمساوي مع التركيز على أن يكون “صوت الضمير” في السياسة النمساوية.
أما عن أبرز الشخصيات المرشحة على قائمة الحزب، فهم:
- فيلي لانغثالر وهو مؤسس الحزب وأحد قادته الرئيسيين.
- أومر باتور وهو مرشح من أصل تركي.
- أستريد فاغنر وهي محامية نمساوية تركز على قضايا حقوق الإنسان، وتدعو إلى استعادة حرية التعبير في النمسا، خصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
- سالي عطية وهي ناشطة ومدرسة من أصول مصرية.
يرى الحزب أن “الشعب النمساوي بطبعه لا يحب الحروب ولا يشارك فيها، وبحسب القانون والدستور النمساوي، تُمنع المشاركة في الحروب أو الدعم لها، إلا أن الحكومة (اليمينية الحاكمة) تدعم الاحتلال بشكل غير مباشر من خلال الاتحاد الأوروبي، وهو ما يسعى الحزب إلى زيادة وعي الشعب النمساوي تجاهه، وبيان ما يحدث من حقائق تتعلق به”.
أما عن فرص وصولهم ونجاحهم في هذه الانتخابات، فلدخول البرلمان عبر قائمتهم الحزبية ينبغي لهم أن يحصلوا على أكثر من 4% من الأصوات الانتخابية (وهي مهمة ليست سهلة على حد قولهم)، كما أنها النسبة التي ستسمح لهم بالحصول على 7 مقاعد داخل البرلمان، لتزداد مقاعدهم طرديًا مع ازدياد النسبة التي سيحصلون عليها.
وهذا ما يعني بحكم عدد مرشحي قائمتهم الانتخابية أنهم في حال حصولهم على أكثر من 4% من الأصوات، فإنهم سيكونون على موعد مع انتزاع ما بين 7 إلى 28 مقعدًا برلمانيًا، متوزعين على 7 محافظات من أصل 9 محافظات نمساوية.
وفي سياق التوقعات، فإنهم وإن كانوا يرون أنهم لم يأخذوا حظهم الكافي من الإعلان وفي ظل الإعلام المكتوب بحقهم والذي توزع بين مؤيد ومعادٍ هو الأغلب، إلا أنهم يتطلعون إلى زيادة التفاف الجاليات العربية والمسلمة حولهم، كما يتوقعون إقبالًا جيدًا من النمساويين الأصليين لصالحهم.
أما عن مستقبل الحزب، فيسعى الحزب للفوز ولو بعضو واحد لفتح ملف دعم غزة في البرلمان النمساوي، وتوجيه رسائل رسمية للحكومة ومناقشتها في وقف الدعم للاحتلال الإسرائيلي بشكل رسمي أمام الرأي العام.
هذا، ويعكف الحزب حاليًا على تدارس إمكانية استمراره بعد الانتخابات، سواء كان الفوز حليفًا أو الخسارة نصيبًا لمرشحيه، على أن يبقى استمرارهم قائمًا على مبدأ الضغط باتجاه نمسا حيادية بخصوص غزة، مقرونًا ببرامج محلية يخدمون بها كغيرهم من الأحزاب على المستوى الوطني المحلي.
ختامًا، وأيًا كانت النتائج التي ستأتي بها صناديق الاقتراع، يمكننا القول إن أنصار الحق الفلسطيني في أوروبا عمومًا، والنمسا على وجه الخصوص، استطاعوا أن يسجلوا نقطة مهمة وبارزة لصالح القضية الفلسطينية في وجه الإجرام الإسرائيلي، وأن “حزب غزة” المرشح استطاع أن يضع “حرب غزة” على طاولة السياسة النمساوية والأوروبية، وأن يطرق بقائمته وبرنامجه الانتخابي أبواب الناخبين على امتداد النمسا، داعيًا إياهم لفتح أبوابهم وأعينهم وقلوبهم للاطلاع أكثر على ما يجري بحق الإنسانية داخل القطاع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.