السؤال الذي يجب أن نوليه اهتمامًا كبيرًا هو: هل يمكن أن يكون للصراع الذي بدأ في غزة واتسع ليشمل دولًا أخرى في المنطقة، مثل العديد من الصراعات الجيوسياسية الطويلة والمعقدة، تأثير كبير على معتقدات الشباب العربي حول عالم أكثر عدالة؟
سؤال آخر: كيف يمكن أن تؤثر الحرب التي اتسعت حلقاتها على طبيعة الفعل السياسي للشباب العربي؟ بعبارة أخرى؛ هل يمكن أن تساهم حروب الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين واللبنانيين في خلق اتجاه مضاد لنزع الطابع السياسي الذي تتبنّاه الأنظمة العربية، أو ما أطلقت عليه في مقالات سابقة: “تصحير السياسة” بتمويتها؟
يمكن النظر إلى هذه التساؤلات باعتبارها اتجاهًا ضمن السياق الأوسع لخصائص وسمات هذا الجيل، الذي تعرضت له في المقال السابق، ولتغير المواقف السياسية والاجتماعية بين الأجيال الشابة، التي غالبًا ما تكون أكثر حساسية للسياقات التي يعايشونها. 60% من الناس في المنطقة تقل أعمارهم عن 30 عامًا، ونصفهم تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا، وفي كل بلد تقريبًا، يتجاوز معدل البطالة بين الشباب في سن العمل معدل البطالة الإجمالي.
لا يمكن البحث عن إجابة لهذه التساؤلات إلا في إطار قيام هذا الجيل بإعادة تعريف السياسة من مداخل جديدة. لاحظ آصف بيات – أستاذ الاجتماع الشهير بالجامعات الأميركية – أن مصطلحات مثل “سياسة الشباب” أو “نشاط الشباب” لا تعني ببساطة أن الشباب مسيسون؛ بل إنها تعني ضمنيًا أن الشباب كخبرة معاشة يتقاطع مع هويات أخرى، مثل: الطبقة، والجنس، والمهنة، والقبيلة؛ لإنتاج أفكار وأفعال وإستراتيجيات جديدة لتغيير الوضع الراهن.
من السياسة الكبرى إلى السياسات الصغرى
المقصود بالكبرى هي السياسة التي تتمحور حول الدولة، وتغيير النظام السياسي فيها، خاصة السلطة العليا، وتدور أساسًا حول الأحزاب والانتخابات، وقد تأخذ هذه النوعية من السياسة تحدي الدولة، كما يظهر في الاحتجاجات.
بينما تقدم الاحتجاجات السياسية مطالب تجاه النظام السياسي، وقد تسعى لإسقاطه أو تغيير سلطته العليا، وتتحدى الدولة بشكل مباشر، فإن السياسات الصغرى، التي تعد شكلًا بديلًا من النشاط السياسي، تعارض النظام السياسي من خلال التنبؤ بالنتائج المرجوة.
بمعنى آخر، في حين أن النشاط السياسي الأكثر تقليدية للشباب العربي يتحدى الدولة بشكل مباشر؛ فإن هذا الشكل البديل من النشاط السياسي يعمل حولها، ويملأ الفجوات التي تغيب عنها الدولة. هذه الجهود الجديدة تساهم في الواقع في عملية “الحكم من الأسفل”.
سد الثغرات التي تغيب عنها الدولة، وتعزيز الممارسات التي تتنبأ بالتغييرات السياسية المرغوبة، يمكن أن يكون ذلك بمثابة نقد للنظام السياسي، ولكنه أيضًا وسيلة لتعزيز الدولة من خلال إعفائها من واجبات ومسؤوليات معينة.
على سبيل المثال؛ فإن الدولة العربية من خلال تطبيق سياسات نيوليبرالية، تنسحب عن تقديم الدعم للفئات الأكثر فقرًا وتأثرًا بهذه السياسات، مما يحفز الشباب والشابات وغيرهم على لعب هذا الدور بدلًا عن الدولة المنسحبة بما يضمن استمرار الأوضاع القائمة وعدم تغييرها.
يتم تقييم حملات الشباب من أجل التغيير ليس من خلال نجاحها في تغيير القوانين، بل بقدرتها على تحويل نبرة المناقشة العامة والضغط على صناع القرار لترك سياسات معينة أو تقويض مصداقية القيادات القديمة
منذ عام 2011، أصبحت الصورة السائدة للنشاط الشبابي العربي هي صورة الحركة الاحتجاجية الجماهيرية التي تجري في الشوارع والساحات العامة. وقد عززت انتفاضات الربيع العربي بموجاتها المتعاقبة هذا الرابط بين النشاط الشبابي العربي وبين الاحتجاج الجماهيري. يتميز هذا النشاط عادة بتقديم مطالبات مباشرة على الدولة في شكل مطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والإطاحة بالمستبدين الذين قبعوا في مناصبهم لفترة طويلة.
ومع ذلك، فإن هذه ليست سوى صورة غير مكتملة وجزئية لنشاط الشباب في المنطقة. كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم، يقوم الشباب في جميع أنحاء العالم العربي بنشاط في مجموعة متنوعة من القطاعات والأنشطة، بما في ذلك تقديم الخدمات، ومبادرات التنمية المجتمعية، وريادة الأعمال الاجتماعية، والفنون والثقافة.
ينتهي مشروع بحث تابع لـ POMEPS (Project on Middle East Political Science) تخصص في متابعة هذه الظاهرة إلى أن: “العديد من المبادرات النشطة الجديدة التي نشأت في القطاعين الاجتماعي والثقافي منذ عام 2011 تأسست ويسكنها نفس الشباب من حركات الاحتجاج الجماهيرية”. ويضيف: “ولا يختلف عدد الناشطين الشباب المشاركين في حركات الاحتجاج السياسية عن المشاركين في النشاط الاجتماعي والثقافي”.
المبادرات الغذائية في المناطق الريفية وشبه الحضرية في مصر؛ منصات ريادة الأعمال الاجتماعية التي تعزز السياحة المستدامة في المحليات في الجزائر. تشمل المواضيع المشتركة التركيز على السكان الأكثر فقرًا أو أولئك الذين يقعون خارج رادار التخطيط للنظام، ومحاولة تحفيز العمل التعاوني مع أفراد المجتمع، ومحاولة إحداث تغيير ملموس وهادف في الحياة اليومية دون اللجوء إلى السلطات أو تغييرات في السياسة الكبرى.
هذه المبادرات الاجتماعية والثقافية وفي أحيان الاقتصادية التي تعمل في القطاع الخاص من خلال نشاط الشركات الناشئة، تؤكد ابتعاد الشباب العرب عن اللامبالاة التي عادة ما يستمتع أمثالنا من الأجيال الأكبر إطلاقها عليهم، لكنهم لا يزالون يشعرون بخيبة الأمل والإحباط من السياسة الكبرى التي تمثلها الدولة ونظامها السياسي والمؤسسات السياسية التقليدية، كالأحزاب ونخبها القديمة.
خصائص السياسات الصغرى
نؤكد بداية أن: الشباب لهم انتماءات أو أيديولوجيات مختلفة. إنهم يشككون في سلطة أصحاب السلطة الأكبر سنًا بطرق مختلفة، وينشرون إستراتيجيات معينة ولغة خاصة بهم لا معنى لها إلا في سياقهم. إنهم جميعًا شباب، لكنهم ليسوا متطابقين.
- أولًا: غالبًا ما يتخذ نشاط الشباب هيكلًا غير رسمي، ومولّدًا ذاتيًا، وخارج القنوات التقليدية للتعبئة والتفاعل السياسي. وإن اتخذ هيكلًا فإنه عادة ما يكون أفقيًا لا رأسيًا، تنتفي فيه القيادة بالمعنى التقليدي، ويتحول إلى دور تنسيقي بين الشبكات المتعددة التي يحتويها هذا الهيكل، لذا فإنه عادة ما يتم تدوير دور المنسق بشكل مستمر ولا يستقر عند فرد معين، وإنما تحدده المهمة والوظيفة المطلوبة في الوقت المحدد.
يتضمن هذا النمط اتخاذ القرار على أساس الإجماع، والقيادة المشتركة، وتشجيع المشاركة من جانب كل أعضاء المجموعة، بمن في ذلك المستفيدون من جهودهم.
على المستوى الاجتماعي، يميل كثيرون إلى تقدير شبكات الحشد والتعبئة التي لا تركز على مجموعة واحدة من الزعماء أو سلطة النخبة، بل على الروابط الذرية بين المحتجين التي تتصل معًا من خلال التحدي المشترك للسلطة، أو السعي المشترك وراء قضية ما.
يساهم هذا النمط في تجاوز ثنائية ذكر/أنثى التي حكمت كثيرًا من العقل الجمعي العربي؛ إذ يسمح بمزيد من مشاركة النساء بحرية في المجال العام، ويقلل من القيود التي تفرضها اعتبارات المحافظة الاجتماعية والدينية التي تحكم تفكيرنا. يلاحظ مزيد من حضور النساء في الأنشطة الشبابية المختلفة، وهو يجري من مداخل وأبواب متعددة لا تقتصر على مطالبهن الخاصة التي رفعت لواءها الحركات النسوية العربية في موجتها الأولى.
قد يكون عدم الرسمية سلاحًا ذا حدين: فهو يتيح تحقيق مكاسب سريعة وسياسات مؤثرة، ولكنه أيضًا لا يترجم بسهولة إلى عالم السياسة العليا التقليدي، كما أن استمراره وديمومته محل تساؤل.
- ثانيًا: يميل رواد الأعمال السياسيون الشباب إلى تبني التكنولوجيا الاجتماعية، ورفض الاندماج في المجتمع المدني، وتغيير السياسة من خلال وسائل خارج صناديق الاقتراع.
يتمتع الناشطون اليوم بمجموعة لا تصدق من أدوات المعلومات والاتصال، ويمكنهم التواصل على الفور مع بعضهم البعض، وكذلك مع أهدافهم السياسية بسهولة أكبر مما كان بوسع الزعماء السابقين القيام به. هذه الخصائص تجعل من الإبداع صفة لصيقة بممارساتهم. هذه الأدوات التكنولوجية والاتصالية بحكم طبيعتها تتّسم بالمرونة والقدرة على تقديم وظائف وأدوار متعددة، كما يمكن إعادة تعريف وظائفها وَفق السياق المتغير.
- ثالثًا: يحقن الناشطون الشباب قضايا جديدة في الأجندة السياسية، ويجلبون للجمهور مناقشات مهملة أو تم تجاهلها.
في كثير من الحالات، ينجح الناشطون الشباب في توسيع الأجندة السياسية بإضافة قضايا جديدة للنشاط العام، والأهم أن هذا عادة ما يصاحبه قوة معيارية تسمح بنقد وتقييم الأشخاص والممارسات والأفكار المطروحة من الجميع.
أحد المواضيع المتكررة بين مبادرات الناشطين التي تم رصدها وتتبعها ودراستها، هو محاولة تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة والاعتراف بالظلم الواقع على بعض الفئات المهمشة والأكثر ضعفًا من خلال أعمال جديدة لتقديم الخدمات وتوزيعها.
تدلنا خبرة العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 وبلاد الشام بعد انكسار الموجة الأولى من الربيع العربي، وتصاعد الغزو الغربي لأفغانستان بعد 2011، على العلاقة بين انسداد قنوات السياسة محليًا واستئساد الغرب على الأمة، مما يعزز الإيمان بالعنف
تكتسب هذه القوة المعيارية أهمية كبرى في العمليات السياسية؛ لأنها تسائِل الرموز والزعامات والقيادات السياسية، بالإضافة إلى نقد الهياكل السياسية والتنظيمات والمؤسسات.
تظل هناك فجوة كبيرة بين دور هذه القوة المعيارية في نقد الفضاء السياسي وبين القدرة على بلورتها في مواثيق وقوانين وسياسات عامة، كما أنها عادة ما تعاني من التشظي الشديد وغياب الإجماع الذي يخلق تيارًا سائدًا، لكنه يمكن أن يمثل – لو أحسن استغلاله – احتفاءً بقيمة التعدد والتنوع الذي بات صفة لصيقة بالواقع العربي يحتاج إلى حسن إدارة وتنظيم.
يتم تقييم حملات الشباب من أجل التغيير ليس من خلال نجاحها المطلق في تغيير القوانين أو تعديل السياسات العامة؛ ولكن من خلال ما إذا كانت قادرة على تحويل نبرة المناقشة العامة، والضغط على صناع القرار للتخلي عن سياسة معينة أو على أقل تقدير عدم المجاهرة بها، أو خلق معيارية جديدة أو تقويض القائمة، بالإضافة إلى تقويض مصداقية الرموز والقيادات القديمة ومنع تقديسها من خلال إبراز تناقضها وعدم اتساقها أو بفضح سلوكها.
- رابعًا: المرونة والتكيف والتراكم بالتعلم المستمر، والتجدد الدائم: تتطور مواقف الشباب وأشكال التعبئة بمرور الوقت، خاصة مع استيعاب الناشطين الشباب للدروس الجديدة وتفاعلهم مع استجابات الدولة.
الناشطون الشباب يدركون مكانتهم الجيلية، وبالتالي يدركون أيضًا الحاجة الملحة إلى تكييف أفعالهم مع خصوصيات كل سياق. وهذا يعني أيضًا أن الشخصي يصبح سياسيًا بطرق غير متوقعة.
إحدى سمات ما يجري من الإبادة التي لن تتوقف على الفلسطينيين، الربط بين معاناة الشباب العربي وأسرهم من سوء أوضاعهم المعيشية ومدى مسؤولية الأنظمة عن ذلك، وبين خذلان هذه الأنظمة ذاتها وهشاشتها في مواجهة إسرائيل.
الاختيار الذي يواجه الشباب في المواقف السياسية ليس ما إذا كان عليهم التعبئة والاحتجاج، بل بالأحرى كيفية التصرف ضد القيود الخارجية وتعلم كيفية البقاء على قيد الحياة والازدهار والنمو. ومن خلال تصنيف أشكال مشاركتهم الجديدة على أنها أعمال لصالح المجتمعات المحلية خارج نطاق السياسة، يتم منحهم مساحة أكبر للمناورة، وخاصة في السياقات القمعية للغاية.
وعلى الرغم من حضور الشخصي بمعاناته وأحلامه وتطلعاته؛ إلا أن العلاقة مع المجال السياسي لهؤلاء الناشطين الشباب، ونظرتهم لأنفسهم كفاعلين سياسيين، بعيدة كل البعد عن الوضوح. يعزى ذلك لضعف المجال السياسي العربي، وغياب الهياكل والتحليل الذي يسمح بوضوح هذه العلاقة.
يرصد العديد من الدراسات خروج فئات أو تسريح عدد من الشباب والشابات من الناشطية السياسية بحكم الإحباط أو تقدم العمر أو الانشغال الحياتي أو الاستقرار الوظيفي …، إلا أن هذا كله أيضًا يمكن أن يساعد على التجدد الدائم إذا تم تضمين أجيال شابة بشكل مستمر، بما يضفيه من قدرة على الإبداع والابتكار على الرغم مما يبدو من تبديد للخبرات.
- خامسًا: من المتوقع أن يكون الموقف من الغرب في قلب السياسة الشبابية بعد تصاعد حرب حكوماته على المنطقة من خلال دعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، وهو موقف ولا شك سيكون مركبًا. يلاحظ الشباب العرب دعم نظرائهم في الجامعات الغربية للفلسطينيين؛ في الوقت الذي يدركون فيه أن دعم كثير من الحكومات الغربية للكيان الصهيوني هو الذي زاد من توحّشه.
وأخيرًا وليس آخرًا؛ فإن نتيجة المعركة التي توسعت حلقاتها من الحرب على الفلسطينيين لتشمل مجمل المنطقة ستكون محددًا هامًا في موقف الشباب العربي من قبول العنف كسبيل للتغيير في مواجهة السلطات المحلية، وضد الغرب أيضًا.
تدلنا خبرة العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 وبلاد الشام بعد انكسار الموجة الأولى من الربيع العربي 2010/2011، وتصاعد الغزو الغربي لأفغانستان بعد 2011 على العلاقة بين انسداد قنوات السياسة محليًا واستئساد الغرب على الأمة وبين مزيد من الإيمان بالعنف الذي سيكون – حينئذ – مشروعًا في الوعي والإدراك.
هذه السمات للسياسة الشبابية هل يمكن أن تتحول من السياسات الصغرى إلى السياسة الكبرى؟ ووفق أي شروط؟ والأهم هل يمكن أن تساعد الحرب الدائرة الآن في هذا التحول؟ وكيف؟ أسئلة تستحق المتابعة في ضوء قرب اكتمال عام على اندلاع الحرب على الفلسطينيين واتساع دوائرها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.