بيروت- تراود مشاعر الغربة والحنين اللبناني يوسف عباس، بعدما اضطر للنزوح مع زوجته وطفله، من حي المطيط في قرية عيترون بقضاء بنت جبيل، المطل مباشرة على المالكية، إحدى القرى السبع التي أقيمت عليها مستوطنة “ماليكاه” في الحدود الجنوبية للبنان.
ونزح عباس وعائلة منذ اندلاع المواجهة بين حزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيلي، في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين كان شقيقه وعائلته في زيارة مؤقتة لديه قبل عودتهم إلى مسكنهم في كندا.
ومنذ اليوم الأول، شعر عباس بأن طبول الحرب قرعت، وبأن البقاء بمنازلهم الحدودية يهدد حياتهم. وقال للجزيرة نت “لسنوات طويلة، وحتى بعد حرب تموز 2006، تآلفنا مع أصوات طيران العدو والقنابل المضيئة، لكن هذه الحرب ذكرتنا أن وجود إسرائيل لعنة تطاردنا حتى نموت”.
يتحسر عباس على ترك منزله الذي بناه كثمرة 15 عاما من الجهد والتعب، وقرر قضاء عمره في عيترون، القرية الأحب لقلبه، حيث يرعى مشتله الزراعي، ويعمل بمشاريع المزروعات والحدائق، لكنه اليوم أضحى واحدا من آلاف نازحي القرى الحدودية جنوب لبنان.
وفيما يعجز عن تفقد مصير منزله تحت هول الغارات والصواريخ، أصبح عباس عاطلا عن العمل، ويفتش عن بديل قريب من مسكنه الحالي في “بئر حسن” ببيروت، ويقول “أشعر بالضياع وعدم الأمان، خسرنا منازلنا وأعمالنا وذكرياتنا دفعة واحدة، وندفع ضريبة العيش بقرانا الحدودية”.
82 ألف نازح
تبدو مأساة نزوح مصطفى السيد أشد وطأة، حيث لجأ من منزله بقرية “بيت ليف” الحدودية إلى أحد مراكز الإيواء بقضاء صور، بعد أن ترك منزله مع عائلته الكبيرة قبل 90 يوما.
وتسببت الغارات بدمار بيتيْ ابنته وشقيقه، ويشكو السيد للجزيرة نت قائلا “حين نرى شهداء غزة وشهداء قرانا، ندرك قيمة إنقاذ حياتنا، لكن مرارة النزوح بلا أغراضنا وثيابنا ومكاننا قاسية، والمساعدات لا تغطي حاجاتنا الغذائية والصحية، وتسوّد الحياة بوجهنا، لأننا لا نعرف متى ستنتهي الحرب”.
أصبح العدوان الإسرائيلي خطرا راسخا في القرى الحدودية جنوب لبنان، وهي التي كانت تزهو بالسهول والمزارع والبساتين الخلابة، وامتلأت اليوم بشظايا “حرب مصغرة”، وبأكوام الدمار وبقايا الفوسفور الذي التهم خضار الأرض، كما خلت من صخب سكانها وحركة مركباتها، باستثناء تلك التابعة لقوات اليونيفيل، لتضج بصدى الصواريخ والغارات والطيران الحربي.
وعلى مدار 3 أشهر، نزح أكثر من 82 ألف شخص من جنوب لبنان، وفق تقرير المنظمة الدولية للهجرة “آي أو إم” (IOM) صدر مساء الخميس، وأشار إلى أنه تم تسجيل زيادة في أعداد النازحين بنسبة 8% في الفترة ما بين الثاني والتاسع من يناير/كانون الثاني الجاري.
ووضّح التقرير أن غالبية النازحين 93% ينحدرون من 3 أقضية حدودية: 48% من بنت جبيل، و33% من مرجعيون، و12% من صور. وتوزع النازحون على 5 مناطق، بنسبة 31% لجؤوا إلى قضاء صور، و17% إلى قضاء النبطية، و15% إلى صيدا، و9% إلى بعبدا، و7% إلى بيروت والبقية توزّعوا على مناطق أخرى.
وتفيد المنظمة الدولية للهجرة بأن نحو 80% من النازحين يقيمون عند عائلات مضيفة، و17% استأجروا منازل، وانتقل 1% إلى مساكنهم الثانوية، بينما يعيش نحو 2% منهم (1100 نازح) في 14 مأوى جماعيا.
ففي صور يوجد 5 مراكز إيواء جماعية تستوعب 758 نازحا، وفي حاصبيا هناك 7 مراكز إيواء تستضيف 152 نازحا، وفي راشيا يوجد ملجأ جماعي واحد يستضيف 38 نازحا، وفي صيدا هناك ملجأ جماعي واحد يستضيف 153 نازحا، كما أن 37% من النازحين هم من الأطفال، و34% من الإناث و29% من الذكور.
نموذج صور
تعد صور في طليعة الأقضية التي استقطبت نازحي القرى الحدودية. ويقول المنسق الإعلامي، في وحدة إدارة الكوارث باتحاد بلديات صور بلال قشمر، “إن عدد النازحين إلى صور تجاوز 22400 نازح، وازدادت الحركة نتيجة توسيع الضربات على بنت جبيل التي كانت تستضيف مثلا نازحين من يارون وعيترون والعديسة.
ويشير قشمر، في حديث للجزيرة نت، إلى أن معدل النازحين يتراوح يوميا بين 200 و300 نازح جديد، وأن الموجودين بمراكز الإيواء ليس لديهم أقارب لاستضافتهم أو مساكن بديلة أو قدرة على استئجار منازل.
وتسعى وحدة إدارة الكوارث لتأمين بعض حاجات النازحين عبر توفير حصص غذائية وأغطية، ويوضح قشمر أنهم رصدوا نحو 10% من النازحين بصور دُمرت بيوتهم بالكامل، ويقول “قدرات الدولة ضعيفة جدا بمجال الإغاثة، وبظل الأزمة الاقتصادية الكبيرة والتضخم والغلاء، يشكل هذا النزوح ضغطا كبيرا على الأسر والمناطق المستضيفة، وثمة مخاوف من تمدد الحرب، لأننا قد نكون عاجزين عن الاستجابة لجميع النازحين إذا تضاعفت أعدادهم”.
وفي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أصدرت حكومة تصريف الأعمال “خطة الطوارئ الوطنية”، والتي هدفت لحماية المواطنين من تداعيات عدوان إسرائيلي واسع، وإغاثتهم بحالة التهجير القسري من ديارهم، لكن تنفيذها لا يزال متعثرا، بسبب عدم وجود مصادر واضحة لتمويلها.
تقديرات وخسائر القرى
ولأول مرة بعد عدوان تموز 2006، يختبر أبناء الجنوب هذا النوع من المواجهات بين حزب الله والقوات الإسرائيلية، فالقرى الحدودية الأمامية صارت خالية من سكانها الذين يستعيدون ذكريات الحرب الأليمة، خصوصا مع استشهاد نحو 28 مدنيا.
وقبل يومين، أوعز وزير الخارجية عبد الله بو حبيب بتقديم شكوى ردا على الشكوى الإسرائيلية الأخيرة حول عدم التزام لبنان بقرار مجلس الأمن (1701)، وتضمنت التأكيد على عمليات إسرائيل العدائية، ومنها “إطلاق قذائف فوسفورية محرّمة دوليا تسببت بحرائق في الأحراش وإتلاف 50 ألف شجرة زيتون”، كما امتد القصف الإسرائيلي أيضا إلى بعض دور العبادة والمدارس والأسلاك الكهربائية.
وخلال الهدنة عقب الجولة الأولى من الحرب، أقرّت الحكومة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، التعويض للمتضررين جسديا وماديا، ورصدت مبلغ ألف مليار ليرة (حوالي 10 ملايين دولار) كقيمة إجمالية للتعويضات.
وهنا، يقول رئيس دائرة الاستقصاء بمجلس الجنوب (التابع للحكومة) حيدر خريس إن هذا المبلغ لم يصل منه شيء، ويذكر أن “الأضرار حينها كانت أقل بكثير مما سببته الجولة الثانية من الحرب، التي كثرت فيها قواعد الاشتباك”.
ولا يستطيع مجلس الجنوب حاليا استكمال عمليات المسح المنجزة حتى انتهاء الحرب، لكنه يرصد أنواع الأضرار في: هدم كلي وهدم جزئي وإعادة تأهيل وترميم وأضرار متوسطة.
ويقول خريس -للجزيرة نت- إن تقديراتهم الحالية تفيد بأن أكثر من 245 وحدة سكنية هدمت كليا، بينها 12 وحدة تقريبا هدمت بغارة واحدة لحي بعيترون، ويقدّر المجلس أن هناك أكثر من 780 وحدة تعرضت لهدم جزئي، مقابل وجود نحو 6 آلاف وحدة سكنية تعرضت لأضرار طفيفة أو بليغة، ورصدوا حرق وتلف نحو 25 مزرعة، ودمارا لآليات وجرافات زراعية وأكثر من 200 مركبة.
ويفيد المتحدث بأنهم يستقون معلوماتهم يوميا من البلديات، مرجحا أن تكون الأضرار أضعاف المذكورة، بسبب صعوبة الوصول للقرى الحدودية الأمامية، مثل عيترون وعيتا الشعب ومركبا وغيرها من الواقعة بين الشريط الحدودي والخط الأزرق.