بدا خطاب قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي، والذي ألقاه مساء الأربعاء الموافق التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، مختلفا عن خطاباته السابقة التي ظل يوجهها للرأي العام منذ اندلاع الحرب يوم 15 أبريل/نيسان الماضي. فبينما اتسمت الخطابات السابقة بقدر من التسييس والصياغة المتضمنة أهدافًا وغايات ورسائل سياسية واضحة الوجهة، خلا الخطاب الأخير من ذلك، كأنما تخلى عنه العقل السياسي الذي كان يقف خلفه، يضع الأفكار في ذهنه، ويضع الكلمات في فمه، فجاء خاليا من أي فكرة متماسكة تتسق مقدماتها مع خواتيمها.
ومن ذلك ما قال إنه “رفض الاتفاق الإطاري الموقع في 5 ديسمبر/كانون الثاني 2022″، وقال لصانعيه إنه “سيفجر حربا”، ولكن هذا الرفض الذي لم يسمع به أحدٌ قبل اليوم، لم يمنعه من التوقيع عليه ولم يصدّه عن الدفاع عنه منذ التوقيع وحتى قبل خطاب أمس، ولم يثنه عن جمع الناس حوله ولا حملهم عليه، وحماية مؤيديه.
وبالرغم من تقديره ابتداءً بأنّ الاتفاق الإطاري سيسبب حربا، فإنه استجاب لتداعياته حتى بلوغ الحرب، ولم يمنعه تقديره الصحيح من خوضها، دون أن يتساءل لمصلحة من هذه الحرب؟! ومضى في اتجاه يعاكس قناعاته، مما يشير إلى التزامه موقفا هو له كاره، وأنه يخوض حربا هو فيها الأداة المُجْبَرة التي لا حول لها، وأنه أُقنع بالحرب وتماهى معها بدفع الآخرين، من الأميركيين والأوروبيين وأهل الرباعية والثلاثية ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السابق في السودان فولكر بيرتس، حسب سياق الخطاب.
ودلالة تحقق النقطة السابقة اتهامه، لأول مرة في هذا الخطاب، شركاءه الأجانب بدفعه إلى الحرب والتخلي عنه، فهو يلومهم بدرجة عالية من التقريع بسؤاله لهم “لماذا دفعتم إلى الحرب إذا كنتم ترضون بعودة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني؟ ولماذا إذن دمرتم بلادنا إذا كنتم ستتراجعون عن دعمنا للقضاء على الحركة الإسلامية؟”.
من الواضح أن رجاء الرجل من استمرار دعم الذين وقفوا إلى جانبه في الحرب أخذ في التراجع إن لم ينقطع، ولهذا مضى في اللوم والتقريع لدولٍ طالما دعمته وانتظرت لحظة انتصاره، وهذا من أوضح التعبيرات عن درجة عالية من اليأس، وتنم عن مفارقة لجل داعميه إن لم يكن كلهم.
وربما استغرب الرجل موجات الهجوم والإدانات التي يواجهها من المنظمات والصحافة الغربية لسلوكيات الدعم السريع في الحرب، وهو يعلم دفع هذه الدول باتجاه الحرب عبر الاتفاق الإطاري، وعدم السماع لتحذيره بأن هذا الاتفاق وصفة حرب، والسبب هو عدم معرفة الرجل بقوانين لعبة الأمم، فحين كان يحذر من حرب يشعلها الاتفاق الإطاري ظنَّ عدم معرفة القوى التي وقفت خلفه بالصيرورة إلى الحرب، وما كان يعلم أن مِنْ قواعد اللعبة الوقوف خلف الحرب الخاطفة المنتصرة، القادرة على إعادة ترتيب الأوضاع بما يروق لهم، ولكن أن يستمروا في دفع فاتورة حرب اتضحت مؤشرات نهايتها من حيث الربح والخسارة، فضلاً عن تكلفتها الإنسانية الباهظة، هذا ما لا يبدو موضوعيا حسب قواعد اللعبة.
والنتيجة هنا أن الرجل أدان كل سلوكه السياسي بالاندفاع في حرب كان يعلم قبل تفجرها أنها مصنوعة، وفضح صانعي الاتفاق الإطاري ومؤيديه أولاً بتصميمه مفجرا للحرب، وفضحهم ثانيا بما يراه تخليا عن دعمهم للحرب بهدف إفشال محاولات الحركة الإسلامية العودة إلى السلطة. وربما أراد بهذا الفضح والتقريع ابتزازهم للاستمرار في دعم الحرب.
سيطرت على الرجل في خطابه سطوة العنصرية في أعلى مستوياتها، فهو يلوم عضو مجلس السيادة إبراهيم جابر، لا لأنّه لم يقف معه لقناعات سياسية مشتركة كما هو المنطق والموضوعية، ولكن لأنّ جابر -حسب نص حميدتي- “لم يراع علاقة الدم، بمعنى القربى القبلية التي تجمع بينهما، ولم يقدِّر الخدمات التي قدمها له حميدتي”.
وظني أن إبراهيم جابر يتنفس الصعداء، ويبتسم في ارتياح من وقع الخطاب الذي برأه مما يهمس به كثيرون بانتقاص ولائه للجيش، بمظنَّة الولاء لقربى الدم بحميدتي. واندفع الخطاب في هوجة عنصرية أعلى أعاد بها تدبير الحرب وإدارتها لقبيلة الشايقية، دون أن يدرك ما طوَّق به هذه القبيلة من فضل، إذ استطاعت بمفهوم كلمات الخطاب أن تجرَّ كل الشعب من خلفها بعدالةِ وموضوعية دعم الجيش، وأحرزت بهذا التحشيد الذي شمل كل أهل البلاد هذه النتائج الموجعة له.
والوسام ذاته الذي علقه على جبين الشايقية، حظيت به الحركة الإسلامية لقوله إنهم “يقاتلون أنصار الحركة الإسلامية منذ بداية الحرب، وإن المقاومة الشعبية هي الحركة الإسلامية”، وتأسَّف على قدرة هذه الحركة على إقناع المجتمع الدولي بأنَّ ما جرى يوم 15 أبريل/نيسان 2023 هو انقلاب الدعم السريع على الجيش.
طبعًا، إن صدَّق الناس أن القوة التي وقفت خلف الجيش هي الحركة الإسلامية، وأنجز بها الجيش هذه الأهداف المتقدمة في الحرب والتي اقترب بها من كسبها بوجه حاسم، فإن هذه الحركة ليست فقط جديرة بحكم السودان، بل هي إذن تتمتع بتأييد شعبي غير مسبوق في البلاد، وهذا جدير بدفع القوى التي أسست الإطاري، دوليةً وإقليميةً، الذي أدى إلى الحرب، حسب حميدتي، (دفع هذه القوى) ليس فقط إلى الرجوع عن الاتفاق الإطاري معنىً وسياقا، بل الاتصال والتفاوض مع الحركة الإسلامية باعتبار استحالة تجاوزها في الواقع السوداني بعدما هدف الإطاري إلى تكريس عزلتها.
وعلى كل، فإنَّ الالتفاف الشعبي حول الجيش يمنح من يسانده شرف صواب الموقف من التأريخ، وبوسم حميدتي لهذه الحركة بمناصرة الجيش، بل في مقدمة مقاتليه، فقد أعاد تموضعها بمكان جدير بالتقدير الشعبي.
والنتيجة السياسية لتأكيد حميدتي أن الاتفاق الإطاري هو ما أشعل الحرب يضع الرجل في مواجهة قوى الحرية والتغيير ونسختها الجديدة “تقدم”.
فبهذا التصريح انشطر الموقف الذي كان يجمعهما، وهو انكار تسبب الإطاري في الحرب، وانفلقت العقدة التي كانت تربطهما، والاعتراف بأن الاتفاق الإطاري هو الذي تسبَّب في الحرب يضعه في موقع واحد مع الحركة الإسلامية والقوى الوطنية الأخرى، التي يشاركها الآن التحليل ذاته في تسبب الإطاري في الحرب، وبالتداعي المنطقي يفرض عليه ذلك ضرورة التراجع عن الإطاري سياسيا، والتراجع عن الحرب كنتيجة منطقية لإدراكه المبكر لخطل خوضها دفاعا عن الاتفاق الإطاري.
إذ كيف يستقيم عقلاً التيقن من أن الاتفاق الإطاري هو ما سبَّب الحرب، والاستمرار فيه، مشروعًا سياسيا، ومواصلة الحرب التي أنتجها، إلا أن تكون تلك بالطبع حالة تواصل ضعف الخبرة السياسية التي شكا حميدتي منها لأول عهده بالسياسة بعد سقوط حكم البشير.
وبطريقة التفكير ذاتها خسر الرجل مصر، وصدّ عنها أقدارا من التأنيب العالي الصوت من الرأي العام السوداني بأنها تخلت عن السودان، ولم يكن موقفها مناسبا للعلاقات في بعدها الأخوي، ولا تقديرها الإستراتيجي باعتبار السودان مجالها الحيوي وأهم عناصر أمنها القومي، وبفضل خطاب حميدتي انقلب التلاوم إلى تقدير شعبي للدور المصري، ليس فقط لتعاطفه، بل لخوضه الحرب في أعلى مستوياتها، وبأقوى أسلحتها، فالطيران المصري يسابق السوداني إلى بنك الأهداف التي يحددها الجيش السوداني، حسب حميدتي، وبمزاعم الرجل عن الدور المصري، صدقت أم لم تصدق، هدم حميدتي جُدرًا من الشكوك والتلاوم بين مصر والسودان، خاصة في بعدها الشعبي، كانت تقيمها كثير من الشكوك والظنون.
حاول حميدتي في خطابه بنبرة تجمع بين الإنكار والاعتذار والقلق دفع تهم التعدي والقتل والنهب وانتهاك الأعراض والاغتصاب اللاصقة بالدعم السريع، ولكن ذلك ما لم يعد مقنعا خاصة للسودانيين كافة، ولن يمحو شيئا بعد صور قتلى قرى ولاية الجزيرة (ود النورة، وقوز الناقة، والعنداب) وغيرها، أو ما حدث في قرى مثل جلنقي، وشرق الدندر في ولاية سنار، ومع شعور عميق بخسارة الحرب، أعلن حميدتي الخطة “ب”، وطالب مناصريه الذين غادروا الميدان بالعودة العاجلة، وتوعد بتحشيد مليون جندي للمرحلة الجديدة من الحرب.
من الصعب الخوض في تحليل خطاب حميدتي بمنهج سياسي، وربما الأوفق التوجه إلى السياق النفسي لفهم مستجدات خطاب قائد الدعم السريع، إذ إن لغة الجسد، ونبرة الصوت، واضطراب المحتوى، دون إدراك مآلاته المنطقية تنم عن غضب مكتوم، وشعور عميق بالخذلان ممن دفع باتجاه الحرب وتنفيس عن احتقان نفسي يعبر عن اعتراف بنهاية مأساوية لمغامرة الحرب، ولكن ظاهر التعبير إنكاري، فيه مزيج اعتراف بهزيمة، واجتناب مواجهة مشاهدها، وإصرار على المضي في طريقها إلى المجهول.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.