كان نظام الرئيس السوداني (الجنرال عمر البشير/ الجبهة الإسلامية) منبوذًا على أكثر من صعيد. سجلّه في حقوق الإنسان بالداخل مشين، ومدان من الرأي العام العربي والعالميّ، وعلاقاته مع النظام الرسمي العربي مأزومة.
وعلى الأقلّ، كانت علاقته مع الشقيقة والجارة الكبرى (مصر) في أسوأ حالاتها بعد اتّهامه بالتورط في محاولة اغتيال الرئيس “مبارك” بأديس أبابا وإيوائه مهاجميه الإسلاميين، يونيو 1996، مع غيرهم من أسماء كبرى على قائمة الإرهاب الأميركية، مثل ” أسامة بن لادن”. لكنه لم يكن مطرودًا من جامعة الدول العربية أو غيرَ معترف به، أو يعدم حلفاء بين بعض الدول العربية.
إلا أنّه عندما شنّت إدارة الرئيس الأميركي “بيل كلينتون” عدوانَها الجوي على مصنع أدوية “الشفاء” في ضواحي الخرطوم 20 أغسطس/ آب 1998، انقلب الحال، وأصبح “سودان البشير” محلّ تعاطف واسع من الرأي العام في مختلف أنحاء العالم العربي.
وأتذكّر وقتها – وكنتُ أعمل في قسم الشؤون العربية بجريدة “الأهرام” – وقعَ نبأ قصف العاصمة السودانية. حينها توحّدت أجيال من الزملاء الصحفيين على مختلف توجهاتهم في الغضب ضد هذا العدوان. وبعضُها عاصر غزو الأسطول الأميركي، العاصمةَ اللبنانية بيروت 1958، والآخرُ قصفه المدينةَ ذاتَها 1983. والأغلبية تقريبًا عاشت وقائع الغارات الأميركية على العاصمة الليبية “طرابلس”، ومعها “بني غازي” 1986.
الأرشيفات توثق كيف كان يغضب العرب رغم خلافاتهم
وإجمالًا؛ كان للغضب في عموم العالم العربي تأثيرُه على النظام الرسمي العربي، ولم يكن له أن يتغاضى أو يصمت. وهو غضب توثقه برقية لوكالة “رويترز” وتصفه “بالاقتراب من الغليان”، وكما نشرتها “الأهرام” بصفحتها الأولى في 21 أغسطس/ آب 1998.
ومن الجامعة العربية، أصدرت الأمانة العامة في أقل من 24 ساعة بيانًا يستنكر القصف الأميركي للسودان، ويعتبره “عملًا غير مبرّر، وتعديًا سافرًا على سيادة دولة عربيةٍ عضوٍ بالجامعة، وخرقًا للمواثيق الدوليّة”.
وبعدها بساعات صرّح وزير خارجية مصر حينها “عمرو موسى” بأن “لا يمكن لأي دولة أن تكون بديلًا عن مجلس الأمن، والقاهرة موقفها واضح بضرورة أن تكون جميع الإجراءات ضد الإرهاب من خلال الشرعية الدولية، وتحت مظلة الأمم المتحدة”.
وتحفظ الأرشيفات كذلك افتتاحية “الأهرام” بعد يومين من هذا العدوان. وتحت عنوان: “المواجهة الجماعية للإرهاب هي الحل”، انتقدت ارتداء الولايات المتحدة ثوبَ الشرطي، وأن تضرب هنا وهناك. وحذرت من أن “الانفراد الأميركي بالعمل على هذا النحو يمكن أن يؤدي إلى تعاطف بعض القطاعات الجماهيرية مع الإرهابيين أنفسهم، وهذا غير مطلوب بالقطع”.
قصف أميركي لعاصمة عربية مجددًا
لا يرى من “الغِرْبال” أو حتى بدونه من لا يدرك الحساسية المتجاوزة للخلافات عندما يَجري مهاجمة عاصمة عربية، ومن جانب أبناء المستعمرين: بريطانيين وفرنسيين وخلفائهم من الأميركيين. ولا يرى وكأنه أعمى من لا يضع في الحسبان عواقب هذا العدوان.
صحيح أن اليمن / صنعاء/ حكم “الحوثي” اليوم خارج النظام الرسمي العربي وجامعة دوله. كما أنّه محل اتهامات وحملات على مدى ما يزيد عن عقد كامل بأنّه مجرد “وكيل لإيران”، وبالمحاكاة للمصطلح الإعلامي الشائع في الصحافة الغربية (proxy)، وبأنه طرف في صراع المحورَين: السني – الشيعي في العالَمين: العربي والإسلامي. وهو صراع – في اعتقادي وغيري- مصطنع وضارّ ولصالح الصهيونية وأعداء الشعوب.
ومجمل ما سبق يضع صنعاء المعتدَى عليها أميركيًا وبريطانيًا اليوم في وضع أضعف مما كانت عليه الخرطوم عند عدوان أميركي مضى عليه نحو ربع القرن.
وصحيح أن اليمن / صنعاء/ حكم “الحوثي” ما زال يخرج أو ينجو بالكاد من حرب أهلية – إقليمية ضروس، أتت على الأخضر واليابس. وهو لم يعالج بعدُ جراح هذه الحرب داخليًا وإقليميًا. فضلًا عن أن ملفات التعافي من آثارها ما زالت مفتوحة وغير محسومة، على الرغم من بدء مسيرة الهدنة والتهدئة وكذا المصالحة مع السعودية الجارة الكبرى، ومعها شرعية الحكم، وبقاء الانقسام بين صنعاء وعدن.
“مارقة منبوذة” وأصبحت تتمتع بشعبية
لكن ومع كل هذا، جاءت مساهمة القوات اليمنية بجهد حربي في البحر الأحمر من أجل غزة وشعب فلسطين بعد 7 أكتوبر 2023 لتمنح صنعاء شعبية بين الرأي العام العربي، تتجاوز الانقسامات الطائفية والأيديولوجية السياسية.
وببساطة وضعت هذه المساهمةُ المقدرةُ عند الجماهير والنخب في أغلبها – على امتداد العالم العربي – صنعاءَ – هذه “المارقة المنبوذة” غير المعترف بها عند النظام الرسمي العربي – في قلب خريطة الصراع العربي – الصهيوني، اليوم.
وهذا مع أن اليمن – لاعتبارات الجغرافيا السياسية – لم يكن بين ما أطلق عليها “دول المواجهة” أو “الطوق”، وبوقائع التاريخ ومنذ عام 1948 لم يكن له مشاركة ملحوظة في حروب الجيوش العربية مع إسرائيل.
وبالطبع ليس لقواته المسلحة من قبل، ما كان في سجل تاريخ جيوش دول عربية بعيدة عن حدود فلسطين كالعراق، أو بإضافة الجزائر وتونس والمغرب إليها مع حرب 1973. وإن لا يمكن أن ننسى لليمن الجنوبي – عدن مساهمتَه – بالتعاون مع البحرية المصرية – في إغلاق “باب المندب” خلال هذه الحرب، وحصار العدو وقطعه البحرية وموانئه في البحر الأحمر، وخليج العقبة.
وباختصار؛ ما فعلته القوات اليمنية/ صنعاء بعد 7 أكتوبر في جنوب البحر الأحمر ومردوده على حصار إسرائيل بحريًا وبإطلاق الصواريخ تجاهها، وضعَ هذا البلد على نحو غير مسبوق في قلب الصراع مع الاستعمار الصهيوني وحلفائه. كما أذاب، إلى حد ما، انقسامات طائفية نمت وتوحّشت على مدى عقود في منطقتنا، وبخاصة منذ الثورة الإيرانية 1979.
وباختصار أيضًا؛ ما فعلته القوات اليمنية هذه مساهمةً في نصرة غزة ولليوم، سرعان ما وجد مردوده قبولًا عند الشعوب العربية، والتي زادت حربُ الإبادة الصهيونية – الأميركية على الشعب الفلسطيني وصمود مقاومته الأسطوري، من الفجوة بينها وبين أنظمتها في كل قُطر، ومع مجمل النظام الرسمي العربي. ومقارنة المواقف والأقوال والأفعال بين هذا وذاك ماثلة الآن بقوّة، وستظل- في الظن- تأثيراتها لأجيال مقبلة.
بل يمكننا القول؛ إن هذه المشاركة العسكرية اليمنية – ومعها الخروج الشعبي في مظاهرات صنعاء، وغيرها من المدن هناك إلى جانب غزة والشعب الفلسطيني – سمحت، للناس من المحيط للخليج، باكتشافِ أن هؤلاء الملقبين “بالحوثيين”، الذين عرفوهم منمطين “كشيعة متطرفين عملاء لطهران”، لا يتحدثون الفارسية، ولا يعتمرون العمائم السوداء.
بل وأيضًا أصبحت قطاعات معتبرة من الرأي العام ترى ما يفعلون – على الرغم مما بهم من ضعف وفقر وبؤس – “نخوةً عربيةً” مفتقدةً عند غيرهم من الأثرياء أصحاب الميزانيات المفتوحة بلا رقابة، والإمكانات الطائلة وأحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا.
ولكنهم محرجون حتمًا
يضع العدوانُ الأميركي البريطاني على اليمن – بمشاركة حلفاء من خارج الإقليم ومن داخله، كما صرّح الرئيس “بايدن” وفورًا – النظامَ العربي وركائزه وقيادته في السعودية موضع حرج أشد وأخطر. أو كما يقول التعبير العربي:” زاد الطين بلة”. وهذا ليس لسبب واحد يتعلق بهذا المزاج الشعبي والنخبوي في العالم العربي، وحساسيته بالأصل تجاه ضرب الأميركيين والبريطانيين لعاصمة عربية.
وهذه المرّة فإن الهدف المستهدف صنعاء، وهي في ذروة حضورها بالصراع العربي – الصهيوني، ومع لحظة كبرى فارقة يواجهها الشعب الفلسطيني وقضيته، ومعه كل أحرار العرب والعالم.
وثَمة قائمةُ أسباب إضافية، ومن بينها؛ أن العدوان على صنعاء ومدن يمنية أخرى جاء مباشرة بعد جولة وزير الخارجية الأميركي “بلينكن” واستقباله في العديد من العواصم العربية. وهو ما يطرح أسئلة لا يقل واحد منها في إحراجه عن الآخر، وهي:
- هل أطلعهم على نيّات إدارته شنَ هذه الضربات؟، أم أنه أخفى عن القادة والمسؤولين في هذه العواصم ما سيَجري فور مغادرته المِنطقة؟.
- وما دلالة أن يشاغلهم بطمأنات عن عزم واشنطن العملَ على منع اتّساع الحرب (وبخاصة إلى لبنان)؟. وهذا، بينما لم تتخلّ إدارته عن المجاهرة -بصراحة وصلف وإجرام – بدعم استمرار الإبادة الصهيونية في غزة. ثم ها هي واشنطن تقوم بتوسيع الحرب هكذا إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، مع مخاطر ردود فعل قد تُعيد حرب ناقلات النفط بنهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
وأيضًا من أسباب الحرج الأشدّ والأخطر للنظام العربي الرسمي ومكوّناته وقيادته كون أنّ العدوان الأميركي البريطاني- مع إسراع واشنطن بالإعلان عن حلفاء من داخل الإقليم وخارجه – قد يفتح الباب لعودة النزاع المسلح داخل اليمن. ويقطع الطريق على تثبيت خطوط وقف إطلاق النار، والتهدئة، وجهود المصالحة مع الأطراف الإقليمية التي انخرطت في هذا النزاع منذ نحو تسعة أعوام.
وهو ما من شأنه أن يجرّ على اليمن والإقليم والعالم، المزيدَ من أعباء هجرة ونزوح ومجاعة ومعاناة ملايين من اليمنيين، لم يتعافوا منها بعد.
وفوق كل هذا وذاك من أسباب الحرج، يُحلّق السؤال: لماذا اختارت الإدارة الأميركية توقيت ضرب صنعاء والمدن اليمنية الأخرى في ذات يوم بدء محكمة العدل الدولية النظرَ في جرائم الإبادة الصهيونية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بغزة؟. وهل هذا من ألوان وفنون ” التغطية وسحب البِساط الإعلامي”؟. أَوَ لا تعي واشنطن أن هذا التوقيت – التزامن يصبّ الزيت على نار المقارنة عند الرأي العام العربي بين مبادرة جنوب أفريقيا وحال دولهم الحليفة والصديقة وجامعتها؟
إلا الحماقة..
عند قصف الخرطوم 98، كان نظام البشير- الجبهة الإسلامية الاستبدادي بدوره يُؤوي جماعات وقيادات محسوبة على “الإرهاب”. وهذا قبل أن يتخلص منها، ويطردها أو يضيق عليها، فتغادر السودان، أو حتى يسلمها إلى المخابرات الأميركية، وغيرها في صفقات كانت بمثابة الوجه الآخر “البراغماتي” لشعاراته “الإسلاموية” واتّجاره بالدين.
لكن المعتدي الأميركي لم يقدم لليوم إزاء اليمن / صنعاء دليلًا يماثل تبريره- ولو بالأكاذيب- قصفَ مصنع أدوية “الشفاء”. لا عندما زعم حينها بأنه يعمل على إنتاج أسلحة كيماوية وغاز أعصاب، أو أن النظام السوداني متورط في تفجيرات السفارتَين الأميركيتَين بكينيا وتنزانيا قبلها، مع نظام “طالبان” بأفغانستان، وحيث وجه إليها ضربات جوية في اليوم ذاته. وفقط يظهر المعتدي الأميركي الآن عاريًا في وضع المدافع عن الصهيونية والحامي لإرهابها. بل وبمثابة وكيل عنها، يخوض معاركها.
للتاريخ دروسه وحكمته
لكن الأحمق من لا يعتبر بالتاريخ وتسلسل وقائعه، فيعود لتَكرار حماقاته المؤذية للغير ولنفسه. إذ لم يمضِ على ضرب العاصمة السودانية نحو ثلاث سنوات إلا واهتزّت الولايات المتحدة ومعها العالم على وقع زلزال هجمات نيويورك وواشنطن بحلول 11 سبتمبر 2001، وحصيلتها الدموية المميتة الفادحة بين المواطنين الأميركيين.
والأكثر مدعاة للدهشة من تَكرار الحماقات، حد الإدمان، أن الإدارة الأميركية في عهد “بوش الأب” كانت قد اعترفت بخطأ تجاهل معاناة الشعب الفلسطيني وقضيته وبعواقب استمرار هذا الظلم التاريخي.
وهذا بعدما لاحظت وأدركت- ومعها العالم – مدى التأييد الجماهيري لضرب الرئيس العراقي السابق “صدام حسين” مدنَ ومستعمرات إسرائيل بالصواريخ عن بعد، وهو في وضع المعتدِي والمحتل لبلد عربي مجاور (الكويت).
وهكذا سارعت هذه الإدارة إلى عقد “مؤتمر مدريد للسلام” قبل نهاية عام 1991، وبعد شهور معدودة من إخراج قوات “صدام” من الكويت. وهذا مع أن غزو الكويت كان قد أحدث شرخًا داخل النظام الرسمي وانقسامًا في الرأي العام عربيًا، وعلى خلاف أحوال العواصم: الخرطوم 1998 وصنعاء 2024، ومن قبلها طرابلس 1986، حين قصفها العدوان الأميركي.
لكن يبدو أن هذه الحماقات لا شفاء منها، وكما يقال :”إلا الحماقة أعيت من يداويها”. وكأنهم لا يتعلّمون- بعد أكثر من درس- أنَّ الظلم والعدوان ومهاجمة العواصم وضربها من شأنها أن ترتد إلى نحر المعتدِي حتى وإن كان في عقر داره.