في وقت مبكر من عملية “طوفان الأقصى”، بعد أسبوع تقريبًا (13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) كتبت The Atlantic تقريرًا بعنوان رئيسي: ” إسرائيل تسير نحو الفخ”، وآخر فرعي: “اقتحام غزة سيحقق رغبة حماس”..!!
في التفاصيل، يشيرُ التقريرُ ـ الذي كتبه Hussein Ibish ـ إلى أنه إذا كانت حماس شاءت من عملية (7 أكتوبر/ تشرين الأول)، استعراض البراعة العسكرية، وإظهار ضعف الاستخبارات والدفاعات الإسرائيلية، فإنّها شاءت ـ في الأساس ـ إحداث زلزال من شأنه أن يؤجل ـ على الأقل ـ مشاريع التطبيع الكبرى والمحتملة في المنطقة من جهة، واستفزاز إسرائيل وحملها على مهاجمة غزة بضراوة شديدة من جهة ثانية، إلى الحد الذي يجعل التعاطف الدولي تجاه إسرائيل ـ الذي حدث في الأسبوع الأول من العملية ـ يتبخر بسرعة ويحلُ محله الغضبُ الشديد إزاء المعاناة التي ستلحق حتمًا بسكان غزة البالغ عددُهم مليونين.
لا سيما وكما يشيرُ التقرير إلى أن حماس ـ بلا شك ـ لم تكن لتخطط بدقة لهجومها الجريء من دون أن تخطط أيضًا على نطاق واسع للرد على الهجوم المضاد الإسرائيلي المأمول على الأرض، ومن المرجح أن يواجه الجيشُ الإسرائيلي تمردًا عنيدًا في غزة.
بعد عام من طوفان الأقصى، واستنادًا على أدلة سرية وصفها أكثرُ من اثني عشر مسؤولًا استخباراتيًا وأمنيًا حاليًا وسابقًا من أربع دول غربية وشرق أوسطية، خلصت صحيفةُ واشنطن بوست إلى أن مخططي حماس كانوا يهدفون إلى “توجيه ضربة ذات أبعاد تاريخية، على أمل أن تجبر تصرفاتُ المجموعة إسرائيل على رد فعل ساحق، وتنتهي الصحيفة بالقول: “لقد سقطت إسرائيل في فخّهم مباشرة”.
والحال أن ثمة آراء “غربية” لم تكن متعاطفةً مع القضية الفلسطينية ولا مع طبعتها المسلحة من حركاتها الوطنية، قدمت ـ لأول مرة ـ مسوّغات بررت هجوم حماس المفاجئ والذي أحدث صدمةً وزلزالًا حقيقيًا، وأعاد طرح “أسئلة الإفاقة” على النظام الدولي الذي استقرّ ـ قبله ـ على “التواطؤ” مع الفاشية الإسرائيلية، وأشعل في تلابيبه حريقًا هائلًا، تتسعُ جغرافيته يومًا بعد يوم.
عندما سُئل رافائيل س. كوهين من مؤسسة راند: ما هي العواملُ التي لعبت دورًا في العام الماضي والتي جعلت من الممكن شن هجوم حماس والخسارة المروعة في الأرواح، قال بلا تردد ” الإجابة المختصرة هي الغطرسة الإستراتيجية الإسرائيلية”.
فقبل هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، تصورت إسرائيل أنها نجحت في احتواء حماس وردعها وإرضائها، من خلال مزيج من بناء جدار حول غزة، وخوض حروب سابقة على نطاق ضيق، والسماح بدخول المساعدات الاقتصادية إلى غزة، وتوفير تصاريح محدودة لسكان غزة للعمل في إسرائيل. ونتيجة لهذا، تصورت القيادة الإسرائيلية أنها تمكنت من حل مشكلة حماس، وكما أظهر هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فإنها لم تكن قادرةً على ذلك.
نتائج العدوان على غزة ـ في غالبيتها ـ تشيرُ بالتواتر بعد عام من طوفان الأقصى، إلى أن العملية كانت “فخًا” محسوبًا بدقة، ليس في إطار نقل ملف القضية الفلسطينية من هامش اهتمامات العالم، إلى “متن” شواغله اليومية وحسب، وإنما أيضًا في إطار زعزعة ثقة العالم، على المستويين: الرسمي والشعبي، في صورة إسرائيل “الضحية” من جهة، والنموذج “الديمقراطي /الأخلاقي ” في بيئة عربية تضج ـ كما تزعم ـ بالتوحش والاستبداد والتخلف من حولها من جهة أخرى، ناهيك عن خسارتها عصا الردع التي استندت إليها في رسم صورة “البُعبُع” الإقليمي الذي يثيرُ الفزع في أية قوة معادية لها في المنطقة من جهة ثالثة:
لقد وجّهت هجماتُ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ضربةً قويةً لسمعة إسرائيل في مجال الاستخبارات الفائقة، وللنفسية الجماعية للشعب الإسرائيلي، ولمصداقية إستراتيجيتها الرادعة بلا أدنى شك.
من بين ما يعزز فكرة “الفخ” التي توقعت ردود فعل إسرائيلية ستخصم حتمًا، من “نقاء” صورتها التي استثمرت من أجلها لعقود طويلة، أنه منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وقع أكثرُ من ألفَي هجوم عنيف على الفلسطينيين من قبل المستوطنين الإسرائيليين.
وهو معدلٌ مرتفعٌ على الإطلاق لعنف المستوطنين، وفقًا لتقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا العنف المتزايد، اعتقلت إسرائيل ربع عدد المشتبه بهم اليهود في الضفة الغربية كما فعلت في عام 2022؛ العام الذي سبق تولي الحكومة اليمينية المتطرفة الحالية السلطة، في حين استولت الحكومةُ الإسرائيليةُ رسميًا عام 2024، على أكثر من تسعة أميال مربعة من الأراضي الفلسطينية، وهي المساحةُ الكبرى في أي عام منذ تسعينيات القرن العشرين.
وفي الوقت ذاته، كشف زلزالُ طوفان الأقصى النزعات الاستبدادية المستترة خلف ادعاءات الدولة الأكثر ديمقراطية في الشرق الأوسط، ففي الأسابيع والأشهر التي أعقبت السابع من أكتوبر/ تشرين الأول مباشرة، شنت إسرائيل حملةً صارمةً على المعارضين لخط الحكومة بشأن الحرب.
وتعرّض الإسرائيليون العرب واليساريون للمضايقات وحتى الاعتقال. ووافقت وزارة بن غفير على منح تصاريح للاحتجاجات المؤيدة للحرب، ولكنها لم توافق على الاحتجاجات المناهضة للحرب، حيث دعا الوزيرُ نفسه إلى فرض حظر كامل على المظاهرات المؤيدة للسلام.
ولكن مشاكل أخرى نشأت، فبعد أن اعتقلت السلطاتُ الإسرائيليةُ جنودًا متهمين بتعذيب المعتقلين الفلسطينيين في قاعدة سدي تيمان العسكرية، اقتحم متظاهرون من اليمين المتطرف القاعدة في محاولة لتحريرهم بالقوة، وانضم أعضاءُ الكنيست الإسرائيلي إلى المجموعة التي اخترقت السياج.
إن هذا الحدث، الذي يُوصفُ على نطاق واسع بأنه السادسُ من يناير/ كانون الثاني في إسرائيل، يوضح مدى عُمق الفساد في الديمقراطية الإسرائيلية، كما قال زاك بوشامب.. كبير المراسلين بموقع فوكس.
ولا تُخفي التقاريرُ والمُحللون الإستراتيجيون في العالم أن الحرب أدت إلى تفاقم الانقسام في السياسة الأميركية، فتاريخيًا، كانت إسرائيلُ تتمتع بدعم واسع النطاق من الحزبين، ولكن هذا لم يعد الحال مع المزيد من التقدميين والناخبين الأصغر سنًا الذين يشككون في هذا المبدأ الأساسي للسياسة الخارجية الأميركية، ومن المؤكد أنّ حرب غزة أدت إلى تفاقم هذا التحول، وسوف تستمر في التأثير على سياسات الدعم الأميركي لسنوات قادمة.
لقد تسبّبت الحرب في غزة في خسارة إسرائيل الدعمَ من جانب العديد من شرائح المجتمع الأميركي، وهو الدعم الذي لن تتمكن الولايات المتحدة من استعادته بسهولة. ورغم المناقشات السياسية المكثفة التي دارت في بعض الأحيان، فإن الدعم الأميركي لإسرائيل كان تاريخيًا ثنائي الحزبية، وإذا حكمنا من خلال ردود الفعل التي أبداها العديدُ من الجامعات الأميركية الرائدة ـ والتي تُشكل بوتقة الزعماء المستقبليين ـ فإننا نستنتج أن المواقف الغربية لن تزيد إلا تشددًا ضد إسرائيل، وليس ثمة شك بأن إسرائيل تواجه مشكلةً أميركيةً سوف تكافحُ جاهدةً لمعالجتها لسنوات طويلة مُقبلة.
وتبقى الإشارة التي لفت إليها مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية حين قال: “مع كلّ ضحية مدنية نتيجة لغارة جوية إسرائيلية، تصبح حجج الغرب في الدفاع عن النظام القائم على القواعد أكثر جوفاء في الجنوب العالمي. وإذا اتخذ شي جين بينغ في مرحلة ما في المستقبل المشؤوم قرارًا بغزو تايوان، فمن المؤكد أنه سيأملُ أن يكون موقفُهُ من حرب غزة قد جعل من المُرجح أن يصطف الجنوب العالمي خلف بكين بدلًا من واشنطن”.
هكذا كان “الفخُ”، الذي نصبته المقاومةُ الفلسطينيةُ يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ليس لإسرائيل وحدها ولكن للنظام الدولي الذي ظل لعقود يمثلُ مظلة الحماية وشهادة الضمان التي تحمي إسرائيل من المُساءلة وأدرجها ـ بفظاظة ووقاحة ـ دولةً “فوق القانون”، لتُقدم المقاومةُ ـ بذلك ـ هذا العالم “المتواطئ” عاريًا تمامًا بلا أية إضافات من “ميكب” الحداثة والتنوير والإنسانية المزيفة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.