أُسدل الستار يوم الثلاثاء الثامن من أكتوبر/تشرين الأول على الانتخابات الرئاسية في تونس بإعلان هيئة الانتخابات فوز الرئيس قيس سعيد بولاية ثانية بأكثر من 90 في المائة من أصوات الناخبين، فيما تلاه ثانيًا المترشح السجين العياشي زمال بـ 7.3 بالمائة، ثم ثالثًا المترشح زهير المغزاوي بـ 1.97 بالمائة فقط.
مثلما كان متوقعًا عرفت هذه الانتخابات مثل سابقاتها التي نظمها قيس سعيد منذ إجراءاته الاستثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021 عزوفًا شعبيًا ملحوظًا وغير مسبوق منذ 2011، حيث لم يشارك في الاقتراع سوى 28.8 بالمائة من عموم الناخبين المسجلين، فيما قاطعت الأغلبية (71.2 بالمائة).
وللمقارنة بين عشرية الانتقال الديمقراطي وثلاثية حكم سعيد المطلق، تفيد الأرقام بأن 60 بالمائة شاركوا في الدور الثاني لرئاسيات 2014، و55 بالمائة شاركوا في الدور الثاني من انتخابات 2019 التي فاز بها قيس سعيد.
مواقف متباينة
ومثلما كان متوقعًا أيضًا، فقد صدرت مواقف متباينة من نتائج الانتخابات وقراءات متعددة لنتائجها، ومقاربات مختلفة لاستشراف توجهات الرئيس سعيد وسياساته في إدارة عهدته الثانية والأخيرة حسب الدستور الذي وضعه هو بنفسه سنة 2022.
لم يتأخر مساندو الرئيس في إعلان استبشارهم بالنتائج التي اعتبروها متوقعة ورأوا فيها بيعة شعبية لقيس سعيد، ثقة في شخصه وفي مشروعه “البناء والتشييد” الذي هو جزء من معركة التحرر الوطني التي أعلنها قبيل الانتخابات. لم يبد مساندو الرئيس أيَّ موقف من الانتهاكات والخروقات التي رافقت المسار الانتخابي بما يعني أنهم يعتقدون في سلامة المسار وصدقية النتائج وتمثيليتها.
مجتمع سياسي رافض
في الجهة المقابلة، أصدرت أطراف المعارضة مواقف عبّرت فيها، بصيغ ودرجات مختلفة، عن عدم اعترافها بنتائج الانتخابات؛ بسبب الخروقات والتجاوزات العديدة التي قامت بها هيئة الانتخابات خدمة لمترشح بعينه، منها التضييق في شروط الترشح، ورفض تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بإعادة ثلاثة من المترشحين للسباق الانتخابي.
وأيضًا منع المنظمات المحلية والدولية من مراقبة الاقتراع، ومنع الإعلاميين من التغطية الإعلامية بسحب اعتمادهم، وبسبب الإجراءات التي اتخذتها السلطة، ومنها سجن المترشح العياشي زمّال، وتحريك قضايا بتهم انتخابية ضد العديد من المترشحين الجديين، وتعديل القانون الانتخابي بأيام قليلة قبل يوم الاقتراع بسحب اختصاص البت في النزاع الانتخابي من المحكمة الإدارية “المشاكسة”، وإحالته إلى القضاء العدلي “المضمون الذي دخل بيت الطاعة”، بما يعني أيضًا إلغاء قرارات المحكمة الإدارية لصالح المترشحين الذين قضت بإعادتهم إلى السباق الانتخابي.
استبق حزب التيار الديمقراطي صدور نتائج الانتخابات بأن أعلن قبل أيام من يوم الاقتراع أنه “يعتبر الانتخابات فاقدة لكل مصداقية، وأنه لن يعترف بشرعيتها وبالنتائج التي ستفرزها؛ لأنها لن تكون معبّرة بأي حال من الأحوال عن إرادة الشعب التونسي”.
وبرّر حزب التيار موقفه بعدم سلامة المسار الانتخابي، وغياب الأمان الانتخابي. ودعا الحزب “جميع القوى الوطنية من أحزاب وجمعيّات ومنظمات وسائر التونسيّات والتونسيّين إلى مواصلة النضال السلمي المدني؛ للدفاع عن حقوقهم وحرّياتهم، والتصدي للانحراف الاستبدادي الشعبوي الذي تكرّسه السلطة القائمة إلى حين استرجاع المسار الديمقراطي، وتكريس قيم ومبادئ دولة القانون والمؤسسات التي نادت بها الثورة، وفرض حقّهم في الاختيار الحُرّ لمن يحكمهم”.
في السياق ذاته، وصفت خمسة أحزاب يسارية: (التكتل، القطب، المسار، العمال والاشتراكي) في ندوة صحفية، قبل يوم الاقتراع، الانتخابات بأنها “غير شرعية”، ودعت التونسيين إلى مقاطعتها بالامتناع عن التصويت، وإحداث فراغ في الصناديق” معتبرة “هذه الانتخابات فاقدة لأي شرعية دستورية أو قانونية أو تمثيلية شعبية”.
كما دعت هذه الأحزاب إلى “النضال من أجل تونس جديدة تقطع بشكل نهائي مع الدكتاتورية والاستبداد والتفقير والتهميش، وتوحيد كل القوى الديمقراطية التقدمية من أجل بديل آخر”.
وفي غياب بيان رسمي، على الأقل حتى الآن، لجبهة الخلاص الوطني: (حركة النهضة وحلفائها)، المعارضة الرئيسية لقيس سعيد، اعتبر الأستاذ أحمد نجيب الشابي، رئيس الجبهة، في تدوينة له على صفحته على فيسبوك أن النتائج المعلنة “تؤكد التوقعات التي ذهب إليها المراقبون في الداخل والخارج منذ أشهر طويلة بإعراض الغالبية العظمى للشعب التونسي عن المشاركة في اختيار رئيسهم، ومبايعة شبه مطلقة للرئيس المنتهية ولايته من قبل الأقلية المشاركة في الاقتراع”.
مضيفًا أن “هذه التوقعات لم تكن من باب التنبؤ أو الرجم بالغيب، وإنما نتيجة قراءة هادئة ومتأنية للواقع الذي يسوده يأس لدى عامة الناس من الحياة السياسية، وانشغال عنها بهمومهم الاقتصادية والاجتماعية، وانعدام أدنى شروط المنافسة النزيهة بعد أن جرفت السلطة كافة الحقوق والحريات، وزجّت بقيادات الرأي من سياسيين وإعلاميين في السجن، وذهبت إلى أبعد مما كان يتصور فلاحقت المترشحين وزجّت ببعضهم في السجن مع حرمانهم من حق الترشح مدى الحياة.
وضربت عرض الحائط بقرارات المحكمة الإدارية التي أذنت بقبول بعض الترشحات، وفي خطوة بهلوانية قام البرلمان بمراجعة القانون الانتخابي وفقًا لإجراءات استعجال النظر لتجريد المحكمة الإدارية من اختصاصها كقاضٍ لمراقبة الانتخابات”..
أما حركة النهضة، فقد صرّح الأستاذ بلقاسم حسن، عضو المكتب التنفيذي، نائب رئيس المكتب السياسي، بأن مؤسسات الحركة بصدد التشاور لبناء موقفها الذي ستعلن عنه في حينه، مجدّدًا ثوابت الحركة في التأكيد على حاجة البلاد إلى تنقية الأجواء بإطلاق سراح المساجين السياسيين وقادة الرأي من إعلاميين ومدوّنين، وإلى الحوار بين الجميع من أجل بناء حالة وطنية ديمقراطية جامعة تسمح باجتراح الحلول المطلوبة لمواجهة التحديات والمخاطر المتعاظمة، وخاصة الاقتصادية والاجتماعية.
في سياق آخر، عبرّ المترشحان اللذان أقصتهما هيئة الانتخابات أولًا، ثم رفضت إعادتهما للسباق الانتخابي ثانيًا، منذر الزنايدي وعماد الدائمي، في بيانَين منفردَين عن عدم اعترافهما بشرعية نتائج الانتخابات مذكّرين باعتراضهما على المسار الانتخابي لما قامت به هيئة الانتخابات من تجاوزات وانتهاكات جيّرت كل المسار لصالح مترشح واحد هو قيس سعيد، وجعلت من المسار غير قانوني، وجعلت من النتائج غير شرعية.
مجتمع مدني غاضب
قالت منظمة “أنا يقظ” المختصة في مراقبة الانتخابات في بيان لها بعد يوم من إعلان النتائج الأولية إنها “تابعت المسار الانتخابي رغم منعها من ملاحظته بصفة تعسّفية من قبل الهيئة العليا “غير” المستقلّة للانتخابات” وإنها “لم تتفاجأ بالنتائج المعلن عنها بفوز قيس سعيد بولاية ثانية وأخيرة، وبنسب تذكّرنا بنتائج الانتخابات المجراة في السنوات السّابقة للثورة؛ وذلك لاشتراكها في الممارسات”.
وأضافت المنظمة أن “ضعف نسبة الإقبال مقارنة بالانتخابات الرئاسية المجراة سنوات 2014 و2019 بصفة عامّة، والعزوف الملحوظ للشباب بصفة خاصّة ليس إلّا دليلًا قطعيًا على فشل مختلف الأطراف المتداخلة في الانتخابات في بناء ثقة الناخبين في المسار الانتخابي”.
وفي وقت سابق ليوم الاقتراع، استنكرت أربع منظمات مهتمة بمراقبة الانتخابات في بيان مشترك “حرمان منظمات وصحفيين من ملاحظة الانتخابات وتغطيتها، معتبرة أن المسّ من حق الاعتماد هو محاولة لمنع المجتمع المدني من دوره في مراقبة الانتخابات، وانتهاك صارخ للقانون وللأسس الديمقراطية”.
وماذا بعد؟
حكم التدافع بين سرديتين مختلفتين الفضاء العام في تونس منذ الإجراءات الاستثنائية لقيس سعيد ليلة 25 يوليو/ تموز 2021 حتى الحدث الانتخابي يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، سردية السلطة المبشّرة بمستقبل واعد لتونس عنوانها “معركة التحرير ومرحلة البناء والتشييد”، وسردية المعارضة عنوانها “إسقاط الانقلاب والعودة إلى حالة الحريات والديمقراطية”.
يفرض الحدث الانتخابي ونتائجه المعلنة على المعارضة وعلى السلطة على السواء، مهما كانت درجة الاعتراض على مساره أو التشكيك في شرعية وتمثيلية نتائجه، بسط مقاربتيهما للمرحلة القادمة. هل ستستصحب المعارضة وصف قيس سعيد بالمنقلب رغم انتخابه الجديد، أم ستضيف لوصفه بالمنقلب وصفه بالمزور للانتخابات، أم ستغيّر موقفها وتقبل بنتائج الانتخابات وتواصل معارضة سياسات قيس سعيد.
أما من جهة السلطة، فهل ستغيّر نهجها الأحادي في إدارة شؤون البلاد، وتقبل بقدر من التشاركية مع الأحزاب والمنظمات وترفع قبضتها الحديدية عن الحريات بإلغاء المرسوم 54، وإخلاء السجون من السياسيين والمدوّنين والإعلاميين ورجال الأعمال، وعودة المهجّرين، وإلغاء إجراءات المنع من السفر، أم ستواصل نفس النهج وربما بأكثر صرامة بناء على نتائج الصندوق والشرعية الانتخابية “الواسعة” للرئيس، رغم أنها جاءت من أقلية ضعيفة (28.8 بالمائة)، وفي مقاطعة واسعة جدًا (أكثر من سبعين بالمائة)؟
السؤال هو: هل ستعترف السرديتان، سردية السلطة وسردية المعارضة، ببعضهما وتغادران مربع التنافي المتبادل وتتقاطعان حول رؤية مشتركة أو متقاربة للمرحلة القادمة على أساس نتائج الانتخابات بما يؤدي إلى قيام حالة وطنية جديدة مستقرة، أم ستواصل السرديتان حالة التنافي بحيث تواصل السلطة نهجها الأحادي الاستبدادي، فيما تواصل المعارضة عدم الاعتراف بالسلطة؛ لأنها انقلبت في 25 يوليو/ تموز 2021، وزوّرت الانتخابات في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 بما يؤدي إلى حالة من الاحتراب الأهلي؟
رغم إعلان بعض أطراف المعارضة مواقفها من نتائج الانتخابات ومن سلطة قيس سعيد، فإن أطرافًا أخرى، تعتبر هي الأهم في ميزان السياسة في تونس، لم تعلن بعد مواقفها، مثل: جبهة الخلاص، وحركة النهضة، والاتحاد العام التونسي للشغل.
أما من جهة السلطة، ورغم التصريحات التي أدلى بها شقيق الرئيس الأستاذ نوفل سعيد لإحدى الإذاعات الخاصة في تونس، فلا يزال قيس سعيد لم يفصح بعد عن سياساته وتوجهاته لإدارة عهدته الثانية والأخيرة، وربما يفعل ذلك قريبًا في خطاب القسَم المنتظر أمام الغرفتين: مجلس نواب الشعب، والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.