يعتقد مراقبون أن الحراك السياسي المحيط بالحربين على غزة ولبنان، يتوفر هذه المرة على فرصة أعلى للنجاح من مرات عديدة سابقة، لكن الفجوة التي تباعد ما بين الأطراف، ما زالت شاسعة، كما أن هناك اعتبارات واستحقاقات محلية ودولية، قد تؤثر سلبًا أو إيجابًا على جهود الوسطاء وحراكهم الدبلوماسي الكثيف، الذي انطلق هذا الأسبوع في الدوحة، وسيستكمل خلال أيام القادمة.
المتفائلون بفرص النجاح، يبنون مقاربتهم على جملة من التطورات، السياسية والميدانية.. في الميدان، بدءًا من غزة، ما زالت المقاومة صامدة وثابتة، وهي تواصل عمليات الاستنزاف لجيش الاحتلال، على الرغم من قسوة الميدان وهول المعاناة الإنسانية، مرورًا بالجبهة اللبنانية، بعد نجاح حزب الله في إنجاز تعافٍ مُبكرٍ وسريع، وتَمَكُنه من ملء الفراغات الجسيمة في منظومة القيادة والسيطرة، وفي أجواء المعارك الضارية على خط الحافة الحدودية، ومع استمرار انهمار صواريخه في العمق الإسرائيلي.. وليس انتهاء بإيران التي نجحت في امتصاصِ الضربة العسكرية الإسرائيلية، التي جاءت دون سقف التهديدات الإسرائيلية بكثير، مع إبقائِها باب الخيارات مفتوحًا أمام “ردٍ على الردّ”.
وإذا كانت إسرائيل، حكومة وجيشًا ورأيًا عامًا، قد عاشت لحظات “نشوة النصر وغطرسة القوة” بعد سلسلة المكاسب الميدانية التي سجلتها، خصوصًا بعد “غزوة البيجر” واغتيال أمين عام حزب الله، وبقية مسلسل الاغتيالات والاستهدافات التي أعقبته، إلا أن تطورات الميدان على الجبهات الثلاث، قد بدأت تدفع من تبقى من عقلائها، لتفضيل الدبلوماسية والذهاب إلى وقف الحرب، قبل أن تبدأ مكاسب الميدان في التآكل والتلاشي، على وقع حرب الاستنزاف متعددة الجبهات التي تخوضها، والمُحمّلة بين الحين والآخر، بمفاجآت غير سارة، يجري وصفها في الإعلام الحربي الإسرائيلي بتعبير “حادث أمني صعب”.. وتلكم كما أبلغني مصدر قيادي في المقاومة، إستراتيجية منسقة بين أطراف “المحور”، مفتاح فهمها الاستنزاف المقرون بالمفاجآت التكتيكية.
عند هذه النقطة بالذات، تبدو إدارة بايدن، أكثر فهمًا ودفعًا باتجاه البحث عن حلول ومخارج سياسية، كفيلة بترجمة مكاسب الحرب الإسرائيلية و”تقريشها” وفقًا للتعبير اللبناني الدارج. كما أن نخبًا متزايدة في إسرائيل، وبالذات في المستويين: الأمني والعسكري، باتت تعتقد أن الحرب قد استنفدت أغراضها، وأن إسرائيل تواجه استنزافًا حادًا، وأن العملية في لبنان، تكاد تنذر بتحويله إلى غزة ثانية.
وهذا تطور بالغ الخطورة إن حصل واستطال في الزمان والمكان، لا مصلحة لإسرائيل في حصوله، حتى بعد أن تكشفت الحرب عن حقائق جديدة، منها أن إسرائيل باتت مهيأة لحروب طويلة الأمد، بخلاف ما كان يعتقد سابقًا، وأن جبهتها الداخلية، أصبحت أكثر استعدادًا لدفع فواتير الحرب وتكاليفها، لا سيما حين تكون هذه الحرب، حرب وجود، كما جرى ويجري وصف طوفان الأقصى في الأدبيات الإسرائيلية.
ويسود الاعتقاد لدى أوساط “المتفائلين” بقرب وصول هذه الحرب إلى خط نهايتها، وأن الانتخابات الأميركية، وأيًا كانت نتائجها، ستعجل في وضع نهاية لها.. فإن جاءت كامالا هاريس، ستتكثف الجهود لضمان وصولها إلى البيت الأبيض، في مناخات إقليمية ودولية مواتية، لتواصل الاهتمام بأولويات الأجندة الكونية لواشنطن في مواجهة روسيا (أوكرانيا)، والصين (تايوان وعلى ساحات الاقتصاد العالمي).
وإن جاء دونالد ترامب، فالأرجح أنه سيكون أكثر “حزمًا” مع حكومة نتنياهو لجهة وقف الحرب، مع أنه كما يجمع المراقبون كذلك، سيكون أكثر “سخاءً” في تَقدِماته لإسرائيل، بما يُسهّل عليها، اتخاذ قرار وقف الحرب، ما دام أن “التعويض” مجزٍ، وغالبًا ما سيكون من “كيس الضفة الغربية”.
ما بات مسلمًا به، حتى من قبل حماس ذاتها، أن الحركة لن تعود إلى حكم غزة، كما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لكن من الواضح أيضًا، وهذا ما ستدور حوله المفاوضات والميدان على حد سواء، أن القطاع لن يحكم من دون حماس
عوائق على الطريق
لكن تقديرات “المتفائلين” المبنية على معطيات ملموسة، ستصطدم دومًا بحقائق صلبة على الأرض، تمنعهم من الإمعان في التفاؤل. من بين هذه الحقائق، أن تركيبة الائتلاف الحاكم في إسرائيل، تقف عقبة كؤود في وجه جهود التسويات ومساعيها، لا سيما أن اليمين الفاشي المتحكم بزمام القرار في تل أبيب، ما زال يعتقد بأن لديه فرصة تاريخية نادرة، لتحقيق أهدافٍ ثلاثة: حسم الصراع مع الفلسطينيين، بفرض الرؤية الإسرائيلية للحل النهائي، تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، والتطلع لدور إسرائيلي مهيمن في إقليم، يراد استتباعه بالكامل، وسلب إرادته، وتحويل دوله إلى أجرام تدور في فلك المشروع الصهيوني وتتكرس لخدمته والسهر عليه.
والهدف الثالث، هو إعادة بناء وتشكيل الدولة العبرية، على أسس جديدة، بخلاف ما أراده “الآباء المؤسسون” من أبناء النخب الغربية، لصالح تيار ديني – قومي – حريدي – مزراحي – سفاردي، ينشد إعادة تشكيل إسرائيل على صورته وشاكلته، حتى وإن أفضى ذلك إلى اندلاع أزمات ومشاكل مع الحاضنة الغربية لهذا الكيان.
هذا التيار الممسك بتلابيب صنع القرار في إسرائيل، يخوض “معركة وجود” على تلك الجبهات الثلاث، ومن السذاجة تبسيط أسباب إحجامه عن الجنوح لخيارات الدبلوماسية والحلول السياسية، بالقول إن لنتنياهو أسبابًا شخصية تدفعه للمضي في خيار الحرب والتصعيد.. هي أسباب قائمة من دون شك، بيد أنها وحدها لا تكفي لتفسير “النزعة الحربية” المتفاقمة في دوائر الحكومة والائتلاف والدولة العميقة، بل وفي أوساط الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي ذاته.
ومثلما اصطدمت كافة المحاولات السابقة لوقف الحرب البربرية على غزة أولًا ولبنان من بعدها، فليس ثمة ما يدعو للثقة بأن المحاولة القادمة، ستنجح حيث فشلت سابقاتها. وليس ثمة من وسيلة لإنزال هذا التيار “الأغلبي” عن قمم الأشجار التي صعد إليها، خصوصًا بعد نجاحاته الخاطفة والباهرة في لبنان، سوى قوة الميدان، وحجم الخسائر التي سيُمنى بها، وإيصاله إلى حافة اليأس من قدرته على تحقيق “الانتصار المطلق”. بخلاف ذلك، سنبقى نراوح بين جولات من التفاوض تحت النار، حتى إشعار آخر.
وثمة عامل آخر، “مسكوت عنه”، يشجع حكومة اليمين الفاشي على المضي قدمًا في حرب التطهير والإبادة، لا يتلخص بقصور وعجز المواقف العربية، الرسمية والشعبية، بل أيضًا بمنح أطراف عربية عديدة، ضوءًا أخضر لإسرائيل، للمضي قدمًا في حرب الاستئصال لفصائل المقاومة في غزة، ولاحقًا (وحكمًا) في لبنان.
ونقول “مسكوت عنه”؛ لأن ما كنّا نقدره تقديرًا، جاء به كتاب “الحرب” لبوب وودورد، صراحة، وبصورة لا ينقصها التوثيق والمصادر.. وما دام أن حكومة نتنياهو مطمئنة إلى “سلامة” الاتفاقات والمعاهدات المبرمة مع الجانب العربي، وأنها تستشعر عن حق، بأن قطار التطبيع، سيستأنف رحلاته، وصولًا إلى محطات جديدة، فلن يكون هناك سبب كافٍ يدفعها لغذّ الخطى على طريق التهدئة ووقف حربها المجنونة على لبنان وفلسطين.
مريرة و”مديدة”
في ضوء هذه العوامل المتناقضة، سنكون أمام جولات جديدة، من المفاوضات “المريرة” و”المديدة”، للتوفيق بين مواقف ومصالح يصعب التوفيق بينها. إسرائيل ستحاول أن تنتزع من حماس والمقاومة بالسياسة ما يوازي مكاسبها في الميدان الغزّي، وهي نجحت في إعادة احتلال معظم أرجاء القطاع، والسيطرة على كامل حدوده ومعابره، وهي تقارف حرب الإبادة والترويع ضد المدنيين الأبرياء، حاضنة المقاومة وبيئتها الاجتماعية.
صحيح أن الاحتلال لم يستتبّ بعد في معظم مناطق القطاع، وأن المقاومة للقوات الغازية ما زالت صلبة وقوية، ولكن إسرائيل، ومعها عواصم دولية وعربية، لن تسمح بعودة الوضع إلى ما كان عليه في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، بل وستحاول قدر الإمكان، الذهاب إلى أبعد نقطة، في تحجيم حماس، وتحطيم قدراتها على الحكم والمقاومة.
وما بات مسلمًا به، حتى من قبل حماس ذاتها، أن الحركة لن تعود إلى حكم غزة، كما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لكن من الواضح أيضًا، وهذا ما ستدور حوله المفاوضات والميدان على حد سواء، أن القطاع لن يحكم من دون حماس، وأن الحركة ومعها فصائل المقاومة، عصية على التصفية والاقتلاع والاستئصال.. كيف يمكن ترجمة هذه المعادلة، إلى نصوص اتفاق، ذلكم هو التحدي الأكبر للمفاوضين والوسطاء على حد سواء.
وفي لبنان، لا تريد إسرائيل أقل من طرد حزب الله إلى شمالي الليطاني، وضمان عدم تسلحه من جديد، والمجيء بقوة دولية تشرف على تنفيذ هذين الهدفين، وهي تقترح لهذا الغرض، فرض حصار مطبق: بري وبحري وجوي، على لبنان، وهي تريد استبدال “اليونيفيل” بقوات متعددة الجنسيات، أو توسيع تفويضها وعديدها، وتغيير هوية الدول المشاركة فيها.
والأهم من كل هذا وذاك، أنها تريد لجيشها وسلاح طيرانها، أن يحتفظا بحرية الحركة و”اليد الطليقة” في البر والجو والبحر، وبما يشبه فرض نظام انتدابي إسرائيلي على هذا البلد، ومن نافلة القول، أنها تريد رئيسًا جديدًا للجمهورية، يستجيب لمواصفات آموس هوكشتاين ومواصفاته.
مثل هذا التصور للحل على الجبهة اللبنانية، لا يمكن أن يكون مقبولًا لحزب الله ولا للثنائي الشيعي، وهو في بعض مفاصله مرفوض من قبل قوى وفصائل ليست صديقة للحزب ولا تكن له ودًّا أو محبة.. مثل هذا الحل، كان يمكن أن يكون “أمرًا واقعًا” لو أن إسرائيل واصلت تحقيق المكتسبات المذهلة والإنجازات الباهرة في لبنان، لكن مع تعافي حزب الله، وميله لإعادة بناء وترميم منظومة ردعية، وقدرته على استعادة زمام المبادرة، يجعل الإصرار على هذه المطالب، ضربًا من الخيال.
لكن كما هو الحال في قطاع غزة، فإن حزب الله، لن يعود إلى دوره المعتاد قبل دخوله في حرب المشاغلة والإسناد في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول، وستكون هناك ترتيبات لوجوده ودوره في جنوب لبنان وشمالي الليطاني، ليست مواتية له تمامًا ولا لجمهرة حلفائه..
والمعادلة التي يمكن التفكير بها للبنان، هي ذاتها معادلة القرار 1701، مع تشديد أكبر، وشرح أوضح، ومراقبة أشد، لآليات ترجمته، خصوصًا من جانب الحزب والدولة. ولعل ترجمة هذه المعادلة، والوصول إلى صيغة تحتملها الأطراف وتستطيع العيش معها، هي التحدي الأكبر الذي يواجه الوسطاء والوساطات، مع فارق لصالح لبنان، أن جبهة داعمي لبنان أعرض وأكبر من جبهة داعمي غزة، وهي تمتد لعدد أوسع من الدول العربية وفرنسا والفاتيكان، وغيرها.
ستستغرق المفاوضات وقتًا يطول أو يقصر، تبعًا لمجريات الميدان، وستكون غرف المفاوضات وموائده، رجع صدى للمعارك التي تدور رحاها في الجنوب والقطاع، وستتأثر هذه المفاوضات سلبًا أو إيجابًا، كلما لاحت في الأفق، بوادر إسناد من جبهات أخرى، وستتأثر إلى حد كبير، بما ستؤول إليه المواجهة بين طهران وتل أبيب، ولهذا يمكننا إسداء النصح لجمهرة المراقبين والمحللين، لا إفراط ولا تفريط، لا إفراط في التفاؤل، ولا تفريط بما يمكن أن يكون فرصة، يتوفر لها من عوامل النجاح أكثر مما توفر لسابقها، والكلمة الفصل، تبقى من قبل ومن بعد، لميادين المواجهة والنزال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.