منذ ثلاثين عامًا، تجوّلت كصحفي في جميع المدن التي يتركز فيها السكان الأكراد في تركيا، من مدينة “فان” في أقصى الشرق حتى مدينة “مرسين” في الغرب. ومنذ ذلك الحين، أتابع من كثب المسألة الكردية، وقضية الإرهاب وتأثيراتها الإقليمية، حتى أصبحت لا أحصي عدد المرات التي زرت فيها المنطقة.
وفي الآونة الأخيرة، تشهد تركيا نقاشات جادة حول القضية الكردية، وهو تطور مهم إقليميًا، وعالميًا كذلك.
تصريحات دولت بهتشلي المفاجئة
قبل خمسة عشر عامًا، عندما قام حزب العدالة والتنمية بإصلاحات لحل القضية الكردية، كان رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، أشد المعارضين وأكثر المنتقدين. وحتى بعد تحالفه مع حزب العدالة والتنمية في 15 يوليو/ تموز 2016، استمرّ في اتخاذ موقف صارم تجاه حزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل الأكراد. كان بهتشلي يرفض التفاوض مع الحزب؛ بدعوى أنه يمثل الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، ويظهر ردود فعل حادة تجاهه.
لكن الأسبوع الماضي، أثار دولت بهتشلي دهشة الجميع بمصافحته نواب حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان، مشيرًا إلى الحاجة للتهدئة السياسية. وبينما كان الجدل محتدمًا حول هذه المصافحة، فاجأ بهتشلي الجميع مرة أخرى بتصريح صادم خلال اجتماع كتلته الحزبية، إذ أشار إلى إمكانية إطلاق سراح عبدالله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني والمحكوم عليه بالسجن المؤبد منذ 25 عامًا، إذا وافق على حل التنظيم ووقف الإرهاب، حتى يتمكن من التحدث في البرلمان ضمن كتلة حزب الشعوب الديمقراطي.
بعد يوم من تصريح دولت بهتشلي، تم ترتيب لقاء بين عبدالله أوجلان، المحتجز في سجن جزيرة إيمرالي، وابن أخيه، النائب عن حزب الشعوب الديمقراطي، عمر أوجلان. خلال هذا اللقاء، نقل أوجلان من خلال ابن أخيه رده على اقتراح بهتشلي قائلًا: “العزلة مستمرة. وإذا توفرت الظروف، فإنني أمتلك القوة النظرية والعملية لنقل هذا المسار من أرضية الصراع والعنف إلى أرضية قانونية وسياسية”. زادت هذه التطورات المفاجئة من الزخم الذي أثارته تصريحات بهتشلي.
الصدمة داخل حزب العمال الكردستاني
فاجأ تصريح دولت بهتشلي، المعروف بمواقفه القومية المتشددة، الجميع في تركيا. وجد السياسيون والمحللون صعوبة في تقديم تفسيرات منطقية. مع ذلك، كان الأثر الأكبر داخل حزب العمال الكردستاني والفصائل المرتبطة به. فبعد ردود فعل سلبية، صرح بعض الأعضاء بأنه “إذا قبل عبدالله أوجلان بذلك، سوف نقبل أيضًا”. لكن حالة من الارتباك اجتاحت قيادات الحزب في قنديل، وروجافا، وأوروبا.
دعم حزب الشعوب الديمقراطي اقتراح بهتشلي في البداية، لكنه تراجع فيما بعد ببيان جديد يعارضه بعبارات معقدة. لا يزال الحزب غير متأكد من موقفه النهائي، حيث إن رفض المقترح يعني عدم إطلاق سراح أوجلان، بينما القبول يعني التخلي عن السلاح.
صعوبة تخلي الحزب عن السلاح
حتى لو دعا أوجلان للتخلي عن السلاح بعد خروجه من السجن، فإن هناك عقبات جدية تحول دون قبول حزب العمال الكردستاني بهذا الأمر بسهولة.
الأسباب هي كالتالي:
- يوجد حزب العمال الكردستاني في عدة مواقع، منها جبال قنديل في العراق، منطقة روجافا في سوريا، وفي ألمانيا، مع تنافس كبير بين هذه المحاور في السنوات الأخيرة. الصراع بين القوى المسلحة في قنديل وروجافا أصبح علنيًا، حيث تربط روجافا علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وتلقى دعمًا عسكريًا أميركيًا، مع حماية قواعدها.
بينما يتأثر جناح الحزب في قنديل بإيران ويحاول توجيه الدفة السياسية في السليمانية. أما الجناح الأوروبي، فهو مندمج مع ألمانيا وتتم إدارة الأنشطة المالية والاجتماعية من هناك. لذلك، فإن دولًا مثل إيران، والولايات المتحدة، وإسرائيل، وألمانيا، لها تأثير قوي على قرار الحزب، ولن توافق على تخليه عن السلاح؛ بسبب دور الحزب كأداة في مواجهة تركيا ودول المنطقة.
- قادة حزب العمال الكردستاني، مثل: مراد قره يلان، جميل باييك، ودوران كالكان، الذين لم يعرفوا سوى حياة القتال في الجبال منذ أربعين عامًا، يخشون من المجهول في حال تخليهم عن السلاح. هؤلاء القادة يؤثرون على آلاف المقاتلين الذين يعتمدون على القتال لاستمرار وجودهم، ويعتقدون أن حلّ القوات في قنديل يعني نهايتهم، مما سيدفعهم لمعارضة هذا القرار.
- في روجافا، تحوّل نحو 80 ألف مقاتل مدعوم من الولايات المتحدة إلى جيش شبه منظم، ويعتبرون أنفسهم قوة حديثة مقارنة بجناح قنديل القديم. وهناك شكوك حول قدرة أوجلان على التأثير على التنظيم في روجافا لدفعه لترك السلاح. وإذا ترك جناح قنديل السلاح ورفضت روجافا، فالسؤال حول ما سيحدث لاحقًا يبقى بلا إجابة، كما أن مصير الأسلحة الأميركية والذخيرة غير معروف.
- بعد هجمات إسرائيل في لبنان، وغزة، وإيران، وسوريا، يعتقد الأكراد في حزب العمال الكردستاني وحلفاؤهم أن هناك تغييرات في خرائط المنطقة، ويرون في هذا الوضع فرصة لتحقيق حلمهم الكبير بإنشاء دولة كردستان المستقلة، معتبرين أن الفوضى الحالية والتغيرات الجيوسياسية تشكل فرصة لتحقيق هذا الهدف، ولذلك يرون أن التخلي عن السلاح والتصالح مع تركيا ليس في مصلحتهم.
لماذا تم اتخاذ خطوة مفاجئة كهذه؟
يعتقد الرئيس أردوغان أن عدوان إسرائيل لن يتوقف، وأن الدور سيأتي على سوريا بعد لبنان، مما سيجعل إسرائيل وجهًا لوجه مع تركيا.
ويشير أردوغان إلى أن حلم “إسرائيل الكبرى” يشمل أجزاء من الأراضي التركية، ويؤمن بأن إسرائيل تطمح في النهاية للاستيلاء على أراضي تركيا. هناك تقييم بأن جيش حزب العمال الكردستاني/ وحدات حماية الشعب، الذي يتألف من 80 ألف مقاتل تحت سيطرة الولايات المتحدة وإسرائيل في سوريا، سيهاجم تركيا ويثير الفوضى فيها عبر استغلال الأكراد.
لهذا، قام أردوغان بخطوة تهدف إلى سحب هذه الورقة من يد الولايات المتحدة وإسرائيل، ومنع تقسيم سوريا وإعلان دولة كردية مستقلة في روجافا. ومن أجل تعزيز السلام والتضامن الداخلي في تركيا، سعى أردوغان للتقرب من الأكراد، والخطوة الأولى لهذا التقارب كانت عبر حليفه في الحكم، دولت بهتشلي، الذي قام بخطوة غير متوقعة غيّرت الأجندة بالكامل.
ومع ذلك، لن يكون الوصول إلى النتيجة المنشودة أمرًا سهلًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.