نحو 100 ألف فلسطيني ما بين شهيد وجريح ومفقود ومعتقل، هم حصيلة 100 يوم من العدوان الصهيونيّ المستمر على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة.
ولا شكَّ أن هذه الحصيلة هي جزء من حصيلة أكبر وعدوان أوسع ومستمر بدأته العصابات الإرهابية الصهيونية، مثل: الهاجاناه والشتيرن التي سبقت قيام الكيان الصهيوني، قبل أن يتمّ دمج هذه العصابات في كيان اعترف به العالم وأسبغ على إرهابه شرعية مزيفة قائمة على اغتصاب الأرض، وتشريد الشعب.
غير أنّ هذا العدوان لم ينجح في محو هزيمة منكرة تعرّض لها الكيان في 7 أكتوبر، فيما تستمر هزائمه على يد المقاومة، لتحرمه من تحقيق صورة نصر يسعى لها.
تطهير عرقي
في ظلّ حكومة هي الأكثر تطرفًا في تاريخ الكيان، فقد شنّ الاحتلال حرب تطهير عرقي، ونفّذ العديد من الجرائم ضد الإنسانية، وأحدث دمارًا غير مسبوق في التاريخ على بقعة جغرافية صغيرة لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا.
وحسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية لحصيلة 100 يوم من العدوان، ارتفعت حصيلةُ العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة إلى 23968 شهيدًا و60582 إصابة منذ معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. (نضيف لهم نحو 350 شهيدًا في الضفة، ونحو 4 آلاف جريح بينهم 593 طفلًا، واعتقال نحو 5822 وَفق مؤسسات مختصة بشؤون الأسرى). علمًا أنه لا يزال الآلاف في غزة تحت الركام، وفي الطرقات لا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.
قال المؤرّخ العسكري الأميركي ومؤلف كتاب “قصف للفوز”: “بكل المقاييس، غزة هي بالفعل حملة عقاب مدنية شديدة. سوف يسجلها التاريخ كواحدة من أعنف العمليات التي تم إجراؤها باستخدام الأسلحة التقليدية على الإطلاق”
وأكدت وزارة الصحة أن 70% من ضحايا العدوان هم من الأطفال والنساء، وأن الاحتلال ارتكب أكثر من 2000 مجزرة ضد العائلات الفلسطينية في قطاع غزة. وتم الإعلان عن اختفاء مئات من الأسر الفلسطينية من السجل المدني، أي تمت إبادتها بالكامل.
كما أجبر القصف – الذي ألقيت فيه 65 ألف طن من المتفجرات – نحو مليونَي فلسطيني على النزوح في ظروف قاسية، وازدياد خطر المجاعة وانتشار الأمراض والأوبئة.
ونوّه المتحدث باسم الصحة إلى استشهاد 337 كادرًا صحيًا واعتقال 99 آخرين في ظروف قاسية، بقصف واعتداءات لقوات الاحتلال، وأن “الاحتلال تعمد استهداف 150 مؤسسة صحية، وإخراج 30 مستشفى و53 مركزًا صحيًا عن الخدمة وتدمير 121 سيارة إسعاف.”
ووَفق المرصد الأورومتوسطي فإن مليونًا و955 ألف فلسطيني نزحوا قسرًا من منازلهم ومناطق سكنهم في قطاع غزة، دون توفّر ملجأ آمن لهم، أي ما نسبته 85% من إجمالي السكان.
وتوثق إحصائية نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أن 290000 وحدة سكنية في قطاع غزة، تضررت بدرجات متفاوتة؛ بفعل قصف الاحتلال البري والجوي والبحري. (نحو 70% من مساكن القطاع). وتم تدمير 65000 وحدة سكنية، فيما تمت تسوية 25010 مبانٍ بالأرض، فضلًا عن تدمير 145 مسجدًا و3 كنائس.
وأدّى قصف الاحتلال إلى تدمير 95 مبنى تابعًا لمدرسة أو جامعة بشكل كلي، بالإضافة لتدمير 295 مدرسة وجامعة بشكل جزئي، وإصابة 130 منشأة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين بشكل مباشر في قصف الاحتلال، بما فيها مدارس. وبحسب وزارة الأشغال العامة، فإن ما يزيد على 35٪ من المناطق الحضرية مُحيت عن وجه الأرض، وأكثر من 40٪ من البنية التحتية دُمرت بالكامل، بما في ذلك الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي وخطوط الكهرباء والاتصالات.
وفي هذا السياق، قال تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في 4 ديسمبر/ كانون الأول: إنّ حجم الدمار الذي لحق بشمال قطاع غزة فقط نتيجة العدوان الصهيوني المستمر يفوق حجم الدمار الذي لحق بمدن ألمانية قصفها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وإنه بالمقارنة مع المدن الألمانية المنكوبة ذلك الوقت، وعلى مدار عامين، بين عامي 1943 و1945، وليس شهرَين، أدَّى قصف الحلفاء لـ 61 مدينة ألمانية كبرى إلى تدمير ما يقدر بنحو 50% من مناطقها الحضريّة.
وتشير تقديرات مراجعة عسكرية أميركية أجريت في عام 1954 إلى أن 7100 طن من ذخائر الحلفاء أسقطت على دريسدن، مما أدى إلى إلحاق أضرار بالغة بنسبة 56% من المباني غير الصناعية، ونصف المنازل، ومقتل حوالي 25000 شخص.
وقال المؤرّخ العسكري الأميركي ومؤلف كتاب “قصف للفوز”: “بكل المقاييس، غزة هي بالفعل حملة عقاب مدنية شديدة. سوف يسجلها التاريخ كواحدة من أعنف العمليات التي تم إجراؤها باستخدام الأسلحة التقليدية على الإطلاق”.
فشل أمام المقاومة
من الواضح أن الاحتلال بحملته الوحشية على المدنيين في قطاع غزة كان يحاول الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة ودفعها لمطالبة المقاومين للاستسلام، غير أن ذلك لم ينجح على الإطلاق، بل رأينا نماذج متعددة من الصمود والتحدي للاحتلال، والتأكيد على استمرار دعم المقاومة، رغم الخسائر الفادحة التي تكبدها الشعب الفلسطيني.
وما زلنا نرى تماسكًا ودعمًا للمقاومة، تمثل في آخر تطوراته رفض العشائر والعوائل الفلسطينية المخطط الإسرائيلي لتسليمها قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، حيث أكدت هذه العشائر في بيانها الذي أصدرته بهذا الخصوص أنها تتمسك بالمقاومة، وأنها صاحبة القرار فيمن يمثّل الشعب الفلسطيني.
ويقول الاحتلال: إنه نجح في قتل نحو 8000 مقاوم، ودمر نطاقًا واسعًا من البنية التحتية للمقاومة، بما في ذلك الأنفاق.
ويبدو أنَّ هذا الرقم مبالغ فيه، ولم يتمكن الاحتلال من إثباته بأي شكل، فضلًا عن أن عمليات المقاومة استمرّت في المناطق الشمالية التي ادّعى الاحتلال أنه سيطر عليها، إضافةً لاستمرار إطلاق الصواريخ التي تستهدف المناطق المحتلة عام 1948 بما في ذلك عاصمة الكيان تل أبيب.
حاربت المقاومةُ الروايةَ الإسرائيلية المضللة عبر بث فيديوهات لعملياتها ضد جنود الاحتلال والتي شملت الاشتباك من نقطة صفر وإطلاق قذائف الياسين 105 ضد الدروع والدبابات الإسرائيلية، وكذلك تدميرها بالعبوات الفدائية، فضلًا عن عمليات قنص الجنود ببندقية الغول، والتفجير لتجمعات جنود الاحتلال، واستدراج عدد منهم إلى كمائن في المنازل أو فتحات الأنفاق.
وفي هذا السياق، تحدث المحلل العسكري الإسرائيلي المستقل في “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي- والذي سبق أن تقلّد عدة مناصب في جيش الاحتلال- عن أن “القوات الإسرائيلية فوجئت عندما اكتشفت أن مجموعة الأنفاق والأعمدة التابعة لحماس أكبر بنسبة 500% إلى 600% من تقديراتها”، وأنه “إذا كان الجيش يعتقد في السابق أن هناك 500 كيلومتر من الأنفاق ونحو 1000 بئر في كامل أراضي قطاع غزة، فإنه الآن- ومن المعروف- هناك آلاف الكيلومترات من الأنفاق وآلاف الأعمدة، فهذه أرقام لا يمكن تصورها”. كما تحدث الكاتب اعتمادًا على تصريحات قادة عسكريين ميدانيين عن “قتال معقد وعنيف في الشجاعية شمال غزة من الزقاق إلى الزقاق، وكذلك في الوسط”، وأن القتال الأعنف هو في خان يونس.
خسائر فادحة للاحتلال
وتحدث الاحتلال عن مقتل 1200 إسرائيلي في هجمات 7 أكتوبر، فيما قال: إن عدد قتلاه من الجنود تجاوز الـ 500 حتى الآن، بمن في ذلك قتلاه في 7 أكتوبر، فيما ما زال يتحدث عن نحو بضعة آلاف جريح فقط، وهو ما تكذبه فيديوهات وإحصائيات المقاومة. فقد قال الناطق باسم القسام “أبو عبيدة” بعد مرور 100 يوم على “طوفان الأقصى”: إنه تم تدمير نحو 1000 دبابة ومدرعة وناقلة جند، حيث يبلغ عدد الجنود في الدبابة الواحدة نحو 4 جنود، وفي المدرعة أكثر من 10.
ولم يعلن الاحتلال عن موت أي من الجرحى المصابين بجروح خطيرة، فيما تتحدث تقارير عن مشاركة مرتزِقة في صفوف جيش الاحتلال، وهؤلاء لا يعلن عن قتلاهم طبعًا.
وقد مارست حكومة الاحتلال حجمًا كبيرًا من الكذب ليس له مثيل للتغطية على فشل جيشها المدوي، مسترشدة بزعيمها نتنياهو الذي غرف من ثقافة الكذب الأميركية التي تربّى عليها!
لكن ذلك تم فضحه بشهادات من مؤسسات الرعاية الصحية لدى الاحتلال. ومن أبرزها ما نقلته وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية الشهر الماضي عن إيدان كليمان- الذي يرأس منظمة لرعاية المحاربين القدامى المعاقين- بأن عدد جرحى الجيش نتيجة الحرب الحالية، قد يصل إلى 20 ألفًا “إذا أدرجنا مصابي اضطراب ما بعد الصدمة”، وأضاف: “لم يسبق لي أن رأيت نطاقًا للقتال مثل هذا النطاق، وكثافة مثل هذه الكثافة”. وقال كليمان: إن منظمته تضاعفت قوتها العاملة ثلاث مرات، وتستعين بمعالجين وموظفين لمساعدة المحاربين القدامى، وترعى أكثر من 50 ألف جندي أصيبوا في الحرب الحالية وحروب سابقة.
وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أنه سيتم الاعتراف بـ 12500 جندي كمعاقين في جيش الاحتلال، وأنه من المتوقع أن يصل حجم الطلبات إلى 20 ألفًا (وزارة الدفاع اعترفت بألفين من الجنود كمعاقين حتى الآن!).
فيما أكد تقرير نشر في صحيفة “إسرائيل اليوم” عن منظمة الرعاية الصحية “كلاليت” أن “كل شخص في إسرائيل سيحتاج لنوع من العلاج النفسي!
وبحسب تقرير لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية في 31 ديسمبر 2023، فإن هجوم “طوفان الأقصى” أضاف 300 ألف شخص على الأقل في الكيان إلى من يحتاجون للعلاج النفسي!
وفي الخسائر المادية، قام جيش الاحتلال بشراء قطع غيار للدبابات بقيمة 275 مليون دولار، الأمر الذي يعني أن قطعه المتوفرة في المخازن نفدت، طبعًا هذا خلاف الدبابات التي خرجت عن الخدمة أو دُمرت كليًا، فضلًا عن الجسر الجوي من المساعدات العسكرية والذخيرة الذي وفرته له الولايات المتحدة.
ومن التداعيات المهمة على الكيان، الازدياد الكبير في الهجرة السلبية منذ 7 أكتوبر، وقد أوردت صحيفة “إسرائيل اليوم” تقريرًا مفصلًا صادرًا عن سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية (حكومية)، مفاده أن هناك حاليًا هجرة سلبية لنحو نصف مليون شخص، ولا يشمل ذلك آلاف العمال الأجانب واللاجئين والدبلوماسيين الذين غادروا البلاد!
كما أن عشرات الآلاف من الصهاينة هجروا منازلهم في غلاف قطاع غزة وفي شمال الكيان، ولا تزال عودتهم بعيدة، ما لم يتم التوصل لوقف إطلاق النار، وترتيب تسوية تؤمّن عودتهم بدون تعرضهم للهجمات والقصف في المستقبل.
وفي الموضوع الاقتصادي، قالت وزارة المالية الإسرائيلية: إن إسرائيل سجلت عجزًا في الميزانية بلغ 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023، مقارنة بفائض قدره 0.6% في عام 2022، وعزت الأمر إلى زيادة الإنفاق الحكومي لتمويل الحرب على غزة.
أمّا محافظ بنك إسرائيل المركزي أمير يارون فتوقع أن تبلغ تكلفة الحرب على غزة 210 مليارات شيكل (56 مليار دولار) للدفاع والتعويضات للذين نزحوا من بيوتهم في الجنوب؛ بسبب عمليات المقاومة الفلسطينية، أو الشمال؛ بسبب الصواريخ التي تستهدفهم من لبنان.
مقاومة فاعلة وفشل للاحتلال
وهكذا، ورغم الخسائر الفادحة في صفوف الفلسطينيين، وخصوصًا لدى المدنيين، فإن المقاومة الفلسطينية لا تزال صامدة وفاعلة وتلحق الخسائر الكبيرة بصفوف قوات الاحتلال، ما يشير إلى استمرار فاعلية منظومة القيادة والسيطرة فيها، كما أن فاعلية كتائبها المقاتلة تشير إلى إمكانية صمودها لشهور.
يقول الكيان: إنه سيستمر بملاحقة المقاومة وفق ترتيبات “المرحلة الثالثة” مع الولايات المتحدة، والتي تشمل تراجع قوات الاحتلال وتركيزها على المقاومة وتخفيف استهداف المدنيين.
ويعاني الكيان من الفشل في تحقيق هدفَيه: القضاء على حماس، واستعادة الأسرى، وتكابد حكومة نتنياهو للحفاظ على تماسكها في ظل التناحر بين قطبَيها: نتنياهو وغانتس، والخلافات بين نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، فضلًا عن تصاعد حدة الخلاف مع الإدارة الأميركية فيما يخص التعامل مع السلطة الفلسطينية أو مخطط ما بعد الحرب.
في هذا السياق، يقول مارتن أنديك السفير الأميركي السابق لدى الاحتلال: إنّ “إسرائيل تشهد اليوم نقطة تحوّل، مع بدء الصحفيين البارزين إخبار جمهورهم بما لن يقوله لهم رئيس حكومتهم، بنيامين نتنياهو”، وأشار في منشور على منصة إكس إلى أنّ “ما لا يقوله نتنياهو هو أنّ حماس مصابة بكدمات، لكنها لن تهزم”، معتبرًا أنّ أفضل ما يمكن أن تفعله “إسرائيل الآن هو التفاوض على عودة الأسرى بثمن باهظ”.
كما يقول نائب الكنيست عن حزب “يش عتيد”، الكاتب المعروف عوفر شيلح، في حديث للقناة 13 العبرية: إن “استمرار القتال بالطريقة الحالية لن يؤدي لتحقيق أهداف الحرب، لا تدمير حماس ولا استعادة المخطوفين.” ويضيف: “هذا ليس فقط بسبب تراجع أو فقدان غطاء الشرعية الدولية، بل لأنه يخطئ من يعتقد أن الجيش، بما تبقى من وقت (المهلة الأميركية حتى نهاية الشهر لتقليص استهداف المدنيين)، قادر على التنقل من مكان لمكان، وقتل هذا “المخرّب” أو ذاك، وتدمير فتحة نفق هنا ونفق هناك. هذا غير ممكن، ويضاف لذلك الكلفة الباهظة للحرب. هذا لن يتحقق، وكل تاريخ الحروب الإسرائيلية يؤكد هذه الخلاصة.
أما رئيس معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، الجنرال في الاحتياط تامير هايمان، فيقول في مقال نشره في القناة 12 العبرية: إن “الحرب على غزة ستطول، وإن أيّ نتيجة لن تمحو عار السابع من أكتوبر، مشددًا على أن تعزيز الأمن القومي الإسرائيلي لن يتحقق إلا بتسوية سياسية طويلة الأمد”.
كل ذلك يؤكّد استحالة تحقيق الاحتلال نصرًا على المقاومة، وأنه وفي ظل فشله في إطلاق أي أسير بالقوة، سيضطر في النهاية للقبول بصفقة تبادل.
وهذا ما يشير إليه سلوك حكومة الاحتلال بالبحث عن هدنة أو وقف إطلاق نار مؤقت تحت ضغط أهالي الأسرى وقادة الكيان السابقين وكتّاب الرأي المعروفين والعسكريين القدامى، في ظل تمسك المقاومة بموقفها أنه لا إطلاق للأسرى إلا بوقف إطلاق النار.