منذ بداية العدوان على غزة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ولمدة طويلة كان هناك خلاف علني في أروقة دولة الاحتلال الإسرائيلي على شكل اليوم التالي في قطاع غزة، حتى إن وزير الدفاع المقال يوآف غالانت قبل إقالته انتقد في مايو/ أيار الماضي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشكل واضح متهمًا إياه بالمماطلة باتخاذ قرارات مهمة حول حكم غزة بعد الحرب.
وكان موقف غالانت يمثل الطرف الرسمي المناوئ لفكرة العديد من وزراء الحكومة الذين كانوا ينظّرون لفكرة الحكم العسكري، وقد أكد غالانت من موقعه كوزير دفاع أن كل الخطط العسكرية تتضمن إيجاد بديل لحكم غزة مدنيًا، وطالب غالانت، نتنياهو حينها بالإعلان أن إسرائيل لن تحكم غزة عسكريًا.
ووصف غالانت الحكم العسكري الإسرائيلي لغزة بأنه “دموي ومكلف”، وكان تقدير موقف غالانت أنه بدون إيجاد بديل محلي لحماس، فإن هناك خيارين سيئين من وجهة نظره، وهما: حكم عسكري إسرائيلي، أو عودة حركة حماس.
آنذاك دعم زعيم حزب المعسكر الوطني بيني غانتس والوزير في كابينت الحرب تصريحات غالانت، وقال حينها إن وزير الدفاع غالانت يقول الحقيقة، وكان رد نتنياهو، أن الحديث عن اليوم التالي غير واقعي ما لم يتم تحقيق حسم عسكري.
واليوم لم يعد غالانت وزيرًا للدفاع ولم يعد غانتس عضوًا في كابينت الحرب، حيث استقال غانتس واستبدل نتنياهو عبر خطة لئيمة التوقيت غالانت بالوزير يسرائيل كاتس الذي يعتبر وفق قناعة كثيرين وزيرًا يفتقد للصلاحيات المهنية لفهم الوضع العسكري، ويعجز عن مواجهة الحكومة بثبات.
وفي هذا السياق، قال اللواء احتياط تال روسو، وهو قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي سابقًا، إن كاتس سيكون مجرد دمية لنتنياهو، “وهو عديم المسؤولية لأنه قبل المنصب ولا مهارات لديه”. بل إن بعض الكتاب مثل رون بن يشاي في يديعوت أحرونوت ذهب إلى القول إن وزير الدفاع الآن هو نتنياهو.
هاليفي في مواجهة نتنياهو
ومن المعروف أن القرار العسكري في دولة الاحتلال يؤثر فيه بدرجة أساسية 3 مواقف، هي: موقف رئيس الوزراء وله الكلمة العليا، وموقف وزير الدفاع، وموقف رئيس الأركان، ومع إبعاد غالانت عن وزارة الدفاع وتعيين كاتس بات موقف نتنياهو أكثر قوة، وبقي رئيس الأركان هرتسي هاليفي المغطى بعار 7 أكتوبر/ تشرين، الأول في مواجهة نتنياهو.
مع تزايد الحديث عن الحكم العسكري من وزراء الائتلاف ومن قادة في أحزابهم، ومنهم على سبيل المثال أوهاد تال، البرلماني الإسرائيلي عن حزب “الصهيونية الدينية” عضو لجنة الخارجية والأمن بالكنيست، الذي طالب ببقاء الحكم العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة لسنوات عديدة، ترفض المعارضة الإسرائيلية وعدد من الشخصيات في الجيش فكرة الحكم العسكري لغزة.
وعليه تعوّل كافة هذه الأطراف التي ترفض فكرة الحكم العسكري لغزة على موقف رئيس الأركان هرتسي هاليفي في مواجهة الحكومة التي يتصدر فيها أشخاص، مثل: وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش اللذين يدعمان فكرة الحكم العسكري لقطاع غزة، بل يدعمان الاقتطاع منه لبناء مستوطنات جديدة.
ويعتقد الرافضون لفكرة الحكم العسكري أن هاليفي يمكنه رؤية الصورة بوضوح، بل إنه الشخص الوحيد، في ظل أن السياسيين الذين يقودون الحكومة تتعارض مصالحهم السياسية مع ما يسمى المصلحة العامة لدولة الاحتلال، وليس لديهم مشكلة أحيانًا في الانجرار إلى حرب ممتدة كبيرة التكاليف.
إن مشكلة المعولين على هاليفي أنهم متشككون في أنه يدرك أن مسؤوليته تتطلب منه الوقوف بحزم أمام دوائر صنع القرار السياسي، وأمام نتنياهو على وجه الخصوص. كما أن الواقع على الأرض يشير إلى أن الجيش يتصرف من جهة، وكأنه يتجاهل الأخطار الحقيقية، ومن جهة أخرى يبدو أنه تتنازعه قرارات متضاربة، وعلى رأس ذلك خُطة الجنرالات التي بدأ الجيش تطبيقها في شمال قطاع غزة دون تبنّيها رسميًا.
أزمة الجيش
لا شك أن الجيش سيكون الجهة الأساسية المسؤولة عن أي سيناريو لفكرة الحكم العسكري في غزة، ولكن من الواضح أن الجيش الذي ما زال يعاني وصمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وما تبع ذلك من جرائم، يعيش أزمات متعددة، منها أن هناك حديثًا عن أنّ الانضباط في مؤسسة الجيش، لم يعد كالسابق.
وقد ذكرت شهادات لمؤسسات دولية أن كل مسؤول بالجيش يتصرف بشكل مختلف عن غيره من الضباط عند مرور شاحنات المساعدات من منطقته، كما أن هناك مؤشرات أخرى حصلت في جنوب لبنان وفي غزة، تؤكد ذلك.
يتحدث كتّاب إسرائيليون مثل عوفر شيلح نقلًا عن مصادر في الجيش عن أن هناك عصابات في الجيش تتصرف بشكل منفصل، وأن الانصياع للأوامر بات ضعيفًا، وأنه لا يوجد محاسبة، وأن الضباط يرتكبون المجازر دون أي رادع، وأن هناك مشكلة أكبر تتمثل في آثار 7 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث يصعب على الضباط الذين فشلوا في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولم يتعرضوا للمساءلة أو المحاسبة، أن يفرضوا أنفسهم أو يحاسبوا جنودًا أقل رتبة منهم. وفي هذا السياق، يتوقع أن حالة عدم الالتزام هذه ستزداد وتتعمق في حال ذهب الجيش نحو خيار الحكم العسكري.
أما الأزمة الأخرى، فهي الاستنزاف والتحدي في القدرة على تأمين 4 فرق لحكم قطاع غزة، وهو ما سيضطر الجيش لفتح ملف التجنيد مجددًا والذي كان أحد أسباب إقالة وزير الدفاع غالانت، وسيؤدي فتح ذلك إلى أزمة داخلية مع التيار الحريدي، وحتى لو تم تجاوز ذلك بمسارات تجنيد أخرى فستكون لها آثار اجتماعية واقتصادية، ستدفع كثيرين للتهرب من الخدمة بشكل أكبر مما هو واقع حاليًا.
تحديات أخرى
إن فكرة الحكم العسكري في غزة، كما قال غالانت، ستكون مكلفة على مستوى الضحايا وعلى مستوى النفقات، وإن كانت تكلفة الموارد البشرية التي كلفت خلال العام الماضي أكثر من ربع الإنفاق الحربي، ستكلف أكثر في حال ذهب الاحتلال إلى خيار الحكم العسكري لغزة، وستكون على حساب تعويض الخسائر في الآليات والتطوير العسكري، فضلًا عن أنها ستكون على حساب التوظيف في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والنمو في كافة القطاعات الأخرى بشكل عام.
ومع أن آخر ما تفكر فيه الفئة الرافضة للحكم العسكري في دولة الاحتلال، هو البعد الأخلاقي لهذا المسار، فهي في أغلبها تدعم التدمير والقتل والحصار، وترى أن المهمة اللازمة في غزة هي استعادة الأسرى، ولا مانع لديها أنه لو قررت دولة الاحتلال عدم تغيير النظام في غزة فإنها يمكنها الانسحاب، ثم العودة إلى أي مكان في غزة في الوقت الذي تريده.
صعوبات مستقبلية
يرى الرافضون في دولة الاحتلال لفكرة الحكم العسكري في غزة بل ولفكرة إمكانية الحسم العسكري الكامل، أن التجربة التاريخية تشير إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي بقيت في السابق في غزة، وفي جنوب لبنان لأعوام طويلة، ولم تستطع القضاء على المقاومة.
ويستدلون أيضًا بواقع الضفة الغربية الحالي، حيث تستمر عمليات الجيش الإسرائيلي على مدار 20 عامًا مع حرية الحركة دون القضاء على المقاومة هناك، وبالتالي يعد من الخطأ المضي نحو هذا الخيار مرة أخرى في غزة بعد أن ثبت فشله، وفي ظل صعوبات وتحديات أكبر، ومقاومة قادرة على التكيف، وتكبيد الاحتلال الكثير من الخسائر.
تحاول دولة الاحتلال في ظل تكلفة الحكم العسكري أن تموّه خيار الحكم العسكري بغطاءات مختلفة، مثل شركات أمنية لتوزيع المساعدات، ولكن هذه الأفكار لن تؤسس لحكم عسكري ولن تستطيع أن تكون بديلًا لحركة حماس في غزة، ولهذا من غير المرجّح أن يكتب لها النجاح.
ختامًا:
يمكن القول إن الحديث عن الحكم العسكري لغزة يزداد في أوساط الاحتلال، وإن واقع الجيش ضعيف أمام أكثر الوزراء تطرفًا تحت قيادة نتنياهو، وحتى فكرة ربط الحكم العسكري بمدة مؤقتة تمهيدًا لوجود سلطة مثل تلك الموجودة في الضفة، لن توفر للاحتلال ما يريده، هذا في حال افترضنا نجاحه.
وفي ظل هذه الصعوبات والتكلفة الكبيرة لا يمكن أيضًا استبعاد أن تكون كثافة الحديث عن الحكم العسكري مع بعض التحركات الميدانية من الجيش مع العمل على فصل جبهة لبنان عن غزة، هي مناورة من نتنياهو للضغط على حركة حماس.
على كل حال، وكما قال غالانت، فإن مسار حكم عسكري إسرائيلي لغزة، والذي يروّج له وزراء نتنياهو، لن يكون سوى خطوة كارثية أخرى على دولة الاحتلال تعمّق مأزقها، وتسير بها إلى تدهور آخر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.