في أعماق الأرض، حيث تتشكل الصخور تحت ضغط وحرارة الطبيعة عبر ملايين السنين، تتألف عناصر مثل الرخام والغرانيت اللذين يمثلان أحد أكثر المواد استخداما في البناء والديكور.
وبينما يتأمل الإنسان جمال هذه الصخور ويختارها لتزيين منزله أو مكتبه، قد لا يخطر بباله أن بعضا من هذه الجماليات تخفي خلفها أسرارا علمية تتعلق بالأمان الإشعاعي، وهو ما كشفت عنه دراسة لفريق بحثي من جامعة الإسكندرية المصرية، فقد أسفرت نتائج دراستهم المنشورة بدورية “ساينتفيك ريبورتيز” عن حقائق مهمة حول سلامة هذه المواد، لا سيما بعض أنواع صخور الغرانيت التي تحتوي على معادن حاملة للمواد المشعة مثل فلسبار البوتاسيوم.
وتشكلت دوافع إجراء هذه الدراسة المهمة، كما يقول الباحث بقسم الدراسات البيئية بمعهد الدراسات العليا والبحوث بجامعة الإسكندرية الدكتور محمد النحال والباحث الرئيسي بالدراسة، للجزيرة نت، عندما كان الفريق البحثي يبحث عن خامات طبيعية يمكن استخدامها كدروع إشعاعية للوقاية من مخاطر أشعة غاما، فاقتضى الأمر فحص تلك الخامات للتأكد من خلوها من المواد المشعة، وكان من بين تلك المواد الغرانيت والرخام، فوجدوا تركيزات مرتفعة من الإشعاع في بعض أنواع الغرانيت، دفعتهم إلى إجراء دراسة تفصيلية حول الأمان الإشعاعي في تلك الخامات.
وسلطت الدراسة الضوء على التحليل الكيميائي والإشعاعي لعينات من الرخام والغرانيت، وكشفت عن أن الرخام، الذي يحتوي في تركيبه الأساسي على أكسيد الكالسيوم (72%) والمعدن الرئيسي فيه هو الكالسيت، يعتبر آمنا من الناحية الإشعاعية.
وعلى النقيض، وجد الباحثون أن بعض أنواع الغرانيت، التي تحتوي على فلسبار البوتاسيوم، قد تمثل خطرا إشعاعيا بسبب محتواها من البوتاسيوم المشع واليورانيوم الطبيعي.
تركيب العينات الكيميائي
اعتمد الباحثون في تحليلهم على عينات من الرخام والغرانيت جمعت من مناطق مصرية مختلفة، حيث أظهرت عينات الرخام احتواء كبيرا على أكسيد الكالسيوم يثبت أن الكالسيت هو المعدن المسيطر عليها، ومن جهة أخرى تبين أن عينات الغرانيت تحتوي على السيليكا وأكسيد الألومنيوم، مما يشير إلى وجود معادن الكوارتز والفلسبار.
وكان اللافت في الدراسة أن عينات الغرانيت الأبيض، المعروفة باسم “أبيض حلايب”، ومصدره منطقة حلايب بجنوب مصر، آمنة من الناحية الإشعاعية لاحتوائها على “فلسبار الصوديوم”، بينما كانت العينات الأخرى من غرانيت جندولا، المعروف بلونه الداكن، والغرانيت الأحمر الأسواني غير آمنة، لاحتوائها على فلسبار البوتاسيوم.
وأظهرت الدراسة أيضا أن عينات الرخام تمتاز بنشاط إشعاعي منخفض جدا، فقد بلغ متوسط نشاطها الإشعاعي 20 بيكريل/كغ للراديوم-226، و4.51 بيكريل/كغ للثوريوم-232، و6.72 بيكريل/كغ للبوتاسيوم-40.
وعلى النقيض، أظهرت عينات الغرانيت نشاطا إشعاعيا أعلى، خاصة في عينات مثل “غرانيت جندولا” و “الأحمر الأسواني”، التي سجلت نشاطا إشعاعيا يصل إلى 1220 بيكريل/كغ للبوتاسيوم-40، وهو ما يعد مقلقا من حيث التعرض للإشعاع.
كاشف الجرمانيوم العالي النقاء
يثق الباحثون بدقة هذه القياسات الإشعاعية، فقد تمت باستخدام جهاز “كاشف الجرمانيوم العالي النقاء” بمعمل القياسات الإشعاعية في معهد الدراسات العليا والبحوث بجامعة الإسكندرية.
ويقول النحال “هذا الجهاز شديد الحساسية، ويمكنه التقاط الفوتونات (أشعة غاما) بدقة عالية، فعندما تصطدم أشعة جاما بالكاشف تنقل طاقتها إلى ذرات الجرمانيوم، مما يتسبب في تحرير الإلكترونات داخل الكاشف، ويتم تحويل الطاقة المنقولة إلى نبضات كهربائية تتم معالجتها وتحليلها باستخدام أجهزة إلكترونية لتحويلها إلى طيف طاقة، والطيف الناتج يمثل العلاقة بين عدد الفوتونات المكتشفة وطاقتها، ومن خلال هذا الطيف يمكن تحديد النويدات المشعة الموجودة في العينة”.
ويضيف النحال “هذا الكاشف يوفر تفاصيل دقيقة عن توزيع طاقة أشعة غاما، مما يجعله مفيدا في التطبيقات التي تتطلب دقة فائقة، مثل الدراسات النووية والتحليل الإشعاعي البيئي، كما في دراستنا”.
السر في “فلسبار البوتاسيوم”
وبعد تحليل النتائج التي أتاحها الكاشف، يشير الباحثون إلى أن الرخام بجميع أنواعه المدروسة آمن للاستخدام في البناء، حيث تقع جميع معايير الخطر الإشعاعي له تحت المستويات الموصى بها.
لكن الغرانيت الذي يحتوي على فلسبار البوتاسيوم، وخاصة العينات مثل “غرانيت جندولا” و”الأحمر الأسواني”، قد تشكل خطرا إشعاعيا نتيجة لوجود البوتاسيوم المشع، مما يجعله غير مناسب للاستخدام في الأماكن التي تتطلب حماية إشعاعية.
وأظهرت النتائج أن فلسبار البوتاسيوم قد يكون محملا بكميات صغيرة من اليورانيوم الطبيعي، مما يعزز من احتمال ارتفاع النشاط الإشعاعي في الصخور التي تحتوي على هذا المعدن، ولذا يجب توخي الحذر عند استخدام الغرانيت في البناء، وخاصة تلك التي تحتوي على تركيزات مرتفعة من فلسبار البوتاسيوم.
وعلى النقيض، فإن الغرانيت الذي يحتوي على فلسبار الصوديوم، مثل غرانيت حلايب الأبيض، يُعتبر أكثر أمانا.
ترشيد لا منع
يقول المدرس بقسم الفيزياء بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، والباحث الرئيسي الآخر بالدراسة الدكتور محمد الصافي، للجزيرة نت، تعليقا على نتائجها “ليس الهدف أن نقول وداعا للغرانيت، ولكن ما سعينا إليه من الدراسة هو وضع ضوابط لاستخدامه، حيث يتعين إجراء فحوص إشعاعية قبل استخدامه في البناء، وخاصة الغرانيت المحتوي على فلسبار البوتاسيوم، كما يجب منع استخدامه بالمستشفيات، وعدم الإفراط في استخدامه بالحوائط والأرضيات داخل المنازل، بينما لا تكون هناك مشكلة في استخدامه بواجهات المباني ومداخل العمارات، والتوظيف المحدود له بالمطابخ للاستفادة من مزاياه كخامة مقاومة للأحماض”.
وفي المقابل، فإن الرخام الآمن بطبيعته والغرانيت الخالي من فلسبار البوتاسيوم يمكن أن يكونا الخيار الأمثل لأولئك الراغبين في الإفراط باستخدام الغرانيت، للجمع بين جمال الطبيعة والأمان في آن واحد، كما يوضح الصافي.
لكن الرسالة الأهم من الدراسة، كما يضيف الصافي، هي ضرورة توفير الحماية للعاملين في ورش تقطيع الغرانيت، لأن هؤلاء يتعرضون للغبار الناتج عن التقطيع، والذي يتسلل إلى داخل أجسامهم مسببا مشاكل صحية، أخطرها الإصابة بالسرطان، وذلك بتوفير أدوات وقاية من الغبار وإجراء فحوص دورية لهم.
توصيات عابرة للحدود
وهذه التوصيات التي خلصت لها الدراسة ليست قاصرة على الحالة المصرية، فظروف تكوين الغرانيت والرخام واحدة ولا تختلف من مكان إلى آخر، ومن ثم فإن مشكلة احتواء الغرانيت على مستويات عالية من الإشعاع متكررة بلا شك في دول أخرى.
ويقول الصافي إن “ظروف تكوين الصخور التي لا تختلف من مكان لآخر لها تأثير مباشر على نسب المواد المشعة فيها، فالغرانيت صخر ناري جوفي يتكون من تصلب الماغما (الصهارة) تحت سطح الأرض، ويتكون أساسا من معادن السيليكات مثل الكوارتز والفلسبار، بما في ذلك الفلسبار البوتاسي، والصهارة الغنية بالفلسبار البوتاسي تكون أكثر عرضة للاحتواء على نسب أعلى من البوتاسيوم-40 المشع”.
ويوضح “نظرا لأن الغرانيت يتشكل من الصهارة التي تحتوي على عناصر من قشرة الأرض العميقة، فإنه قد يحتوي أيضا على كميات من اليورانيوم والثوريوم، وهما أيضا مصدران طبيعيان للإشعاع، كما أنه يتشكل ببطء تحت الأرض، مما يعطي المعادن المشعة مثل اليورانيوم والثوريوم فرصة للترسب في هيكله البلوري خلال عملية التبريد”.
وفي المقابل، يوضح الصافي أن الرخام صخر متغير يتكون نتيجة التحول المتماسك للصخور الرسوبية مثل الحجر الجيري تحت تأثير الضغط والحرارة، ويتكون في الغالب من الكالسيت (كربونات الكالسيوم)، وهو معدن غير مشع.