الأحداث التاريخيّة الكُبرى ـ بحسب أوزانها النسبية ـ عادة ما تكون منعطفًا، يدفع في اتجاهات مغايرة؛ لا تؤدي فقط إلى “مخرجات” على قطيعة مع الأسس التي أفضت إلى هذه الأحداث، وإنما تعيد رسم شكل العالم وفحواه الأخلاقي والإنساني والفلسفي.
ولعلّي لا أكون مبالغًا إذا قلت: إنّ في صدارةِ هذه “الأحداث/ المنعطف”‘ الحركةَ الطلابية في فرنسا عام 1968، التي زلزلت العالم، وأعادت توحيده ضدَّ “الإنسانِ ذي البعد الواحد”، على حد تعبير “هاربرت ماركوز”، والنزعة الاستهلاكية لديه، وتفاقم قلقه وخلق احتياجات وهْمية لديه طيلة الوقت.
مصدر إلهام
وهي الحركة التي مهّدت لأكبر إضراب عمالي في فرنسا – “11 مليون عامل”- فرّ على إثره الرئيس الفرنسي السابق “شارل ديغول” إلى ألمانيا سرًا.
وامتد أثرها إلى فيتنام، وباتت مصدر إلهام للشباب في الصين؛ (الثورة الثقافية)، ومناهضة الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة، (حيث تنامت الحركات المناهضة للحرب في فيتنام)، وإيطاليا، واليابان، (الجيش الأحمر)، وتشيكوسلوفاكيا (الانتفاضات الإصلاحية)، وفلسطين (الانتفاضة الفلسطينية)، وملهمة أيضًا لليسار العربي في مواجهة القمع السلطوي.
حتى أصبح “مايو 1968″، كما وصفه الفيلسوف الفرنسي اليساري “آلان باديو” بأنه “التنويعة الفرنسية لظاهرة عالمية”، وأطاحت بكل النفاق الاجتماعي والأخلاقي والسياسي الذي كان سائدًا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعرَّت- كما تقول “فلورنس جوتييه”- الزيفَ الأيديولوجي الذي كان سائدًا آنذاك في المعسكرَين: الشرقي والغربي.
وقامت في سياقها بفرز طبقتَي النخبة: “التقدمية” التي ساندتها- (سارتر، وميشيل فوكو، وجيل دولوز)- و”الرجعية” التي اعتبرتها “طفولية جماهيرية”؛ (كلود ليفي ستراوس)، أو دراما اجتماعية. وألحّ على ضرورة نزع القداسة عنها (ريمون آرون)، وتصدّر المشهد الإبداعي جيلٌ جديد من النقاد والمبدعين الطليعيين: (دريدا، وفوكو، بارت، كرستيفا، فيليب سولرز، وجان ريكاردو).
انهيار وتخلٍّ عن الذات
قُبيل الحركة الطلابية الباريسية بعام، شهد العالم العربي زلزالًا هو الأسوأ في تاريخه الحديث ـ هزيمة 1967 ـ لم يُحدِثْ على إثره “حراكًا / فرزًا”، وما يترتب عليه بطبيعة حال من منتج سياسي وثقافي وإبداعي مختلف لما قبل النكسة، حيث انتظم المثقفون في ذات السردية للقوى السياسية المهزومة، مع وجود هامش من النصوص الروائية النقدية، موظِّفةً ـ ببراعة ـ الإسقاطَ والرمز والتلميح الآمن والإيحاء، وذلك على مستوى الجماعة.
فيما أثّرت الهزيمة بشكل حاد وقاسٍ على مبدعين، فمنهم من أصيب بالاكتئاب المفضي إلى الانتحار، ومنهم من تخلى عن “ذاته/ العبثية” ليتحول كليًا ـ وحده ـ إلى حركة احتجاجية نالت مباشرة من القيادات السياسية التي تسببت في الهزيمة.
قبل هزيمة يونيو، لُقبَ نزار قباني بـ “شاعر النّساء والحب”، حينها أصدر ثلاثة دواوين: “قالت لي السمراء”، وهو طالب بكلية الحقوق، ثم “طفولة نهد”، و”الرسم بالكلمات”.
وكما سحقت هزيمة 67 صلاح جاهين في مصر، فإنها أيضًا تركت ذات الأثر، على نزار قباني في دمشق، ولكن بفارق في الوعي بدور الشعر النضالي عند الشاعرَين.
جاهين في القاهرة، تقريبًا بات شخصًا محطّمًا، مثقلًا بضمير تحاصره مشاعر التأنيب، فلا تترك له فرصة الخروج من عتمة الاكتئاب إلى التعلق بقشّة الأمل حتى ولو كان بعيدًا؛ فبعد أن كتب “صورة” و”يا ولاد بلدي” و”والله زمان يا سلاحي”.. سقط في استسهال الابتذال، فكتب سيناريو “خلّي بالك من زوز”، و”أميرة حبي أنا”، وأغنية “الدنيا ربيع”، وأغنية “الدنيا بقى لونها بمبي”، أثارت الشفقة عليه من جهة، وسُخرية المثقّفين الثوريين وتهكمهم عليه من جهة أخرى، حتى قال له نجيب سرور: “بمبي يا صلاح؟ بمبي ولسه البلد خربانة؟ بمبي ودم إخْواتنا لسه مبردش في سينا؟”. وانتهت المشاجرة بمغادرة صلاح جاهين باكيًا مقهى الفيشاوي، حيث التقيا.
انهار جاهين مع الانهيار السياسي للمشروع الناصري، وهزيمة ضباط يوليو، ولكن ـ بالعكس ـ وجع النكسة ومرارة الهزيمة، أحالا نزار قباني من التفرغ لـ “تحرير الحب”، وكما كتب يومًا: “إن الحبّ في العالم العربي سجينٌ وأنا أريد تحريره”، أحالته الهزيمة من “فلسفة العشق” إلى رائد النضال بالشعر من أجل الديمقراطية وجلد الدكتاتوريات التي أدت إلى التراجع الحضاري للأمة.
حتمية تصدّع النظام الدولي
وعلى هامش هذا المتن كان ثمة حالات، ربما لم تحظَ بذات شهرة نهاية جاهين ومأساويتها، مثل: انتحار الروائي الأردني تيسير السبول، واليسارية المصرية أروى صالح، والشاعر اللبناني خليل حاوي؛ نتاج القهر السياسي والاجتماعي ودخول الإسرائيليين إلى لبنان في حالة الأخير.
وكنتيجة بالتبعية لغياب نضج واختمار تيار إبداعي/ فكري جديد، يقوم بدور الاحتواء وتقديم مدونة جديدة مفارقة لما قبلُ، ومقنعة بأنها انتظمت في حراك إصلاحي وتجديدي يعيد الأمل في أن ثمة فائدة من وجوده ومن قيمة ما يضيفه إلى إنسان ما بعد الأزمات التاريخية الكبيرة.
لم يحدث في العالم العربي، أي حدث قد يشطر العرب ـ والعالم كله كذلك ـ إلى ما قبلُ وما بعد مثل 7 أكتوبر 2023، وما تلاه من مشاهد في غزة، زلزلت العالم، وبعثرت صورته التي كانت من ميراث ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فيما تواترت التحليلات الرصينة التي تؤكد على أن الحرب الأخيرة ستؤدي حتمًا إلى انهيار النظام الدولي الحالي، وستدفن تحت أنقاض غزة، منظومة القيم الغربية والأميركية التي كانت عادةً مصدر إلهام وإبهار، خاصة في الدول الشرق أوسطية التي تكابد مشقة قاسية في التحرر من تحت السيطرة الأمنية والمخابراتية، وسحق حقوق الإنسان فيها.
في السياق ـ بطبيعة الحال ـ يجري الآن فرز الطيف الفكري والثقافي وإكسسواراته من إبداع وغيره على تنوعه واتساعه.
وكما أفرزت الانتفاضة الطلابية في مايو 1968 في باريس تيارًا جديدًا ومدارس نقدية وإبداعية تقدمية – “تحتقر” الكتل الإسمنتية من المفكّرين والمبدعين الذين وقفوا ضدها.. وانحازوا إلى حداثة ما قبل الستينيات التي صادرت “المعنى” داخل الإنسان الغربي، وأحالته إلى مجرد “شيء” في تُرْس الرأسمالية المتوحشة، فإنه من المتوقع -من قبيل “حتمية الإذعان” للواقع الجديد- أن تختفي نخب ما قبل 7/10 /2023.
خاصة هؤلاء الذين خذلوا المقاومة، إما بالسكوت؛ إرضاءً لحسابات سياسية داخلية، أو لتأمين أحلام ومكاسب وأشواق “شخصية” تجافي الضمير والانتماء لقضايا الأمة.
ناهيك عمن ابتذلوا تاريخَهم، وانتظموا فيما يشبه الكتائب الإلكترونية المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتبنَّى الفحوى ذاته الذي يتبنّاه الإعلام العسكري الإسرائيليّ.